سباق التسلح في القارة العجوز

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

لم يسبق لدول أوروبا أن شهدت ارتفاعاً جنونياً في ميزانيات التسلح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والأمر لا يقتصر على دول كبرى معروفة بتاريخها العسكري وبمشاركاتها القوية في الحروب الكونية السابقة؛ بل إن هذه الظاهرة تتعلق بشكل غير مسبوق بدول أوروبية فقيرة وذات موارد محدودة في شرق أوروبا على غرار بولونيا التي قررت رصد القسم الأكبر من مواردها المالية من أجل عقد صفات تسلح كبرى تتجاوز قيمتها 4 في المئة من ناتجها الداخلي الخام لسنة 2023، كما بدأت الدول المجاورة لها في البحث عن صفقات جديدة للتسلح وفي تحويل القسم الأكبر من مقدراتها المالية لدعم قدراتها الدفاعية في أجواء متوترة يهيمن عليها الخوف من البعبع الروسي.

 هناك تحركات واسعة في كل أنحاء أوروبا تؤكد دخولها في سباق تسلح محموم من شأنه أن يجعل الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية في القارة العجوز أكثر هشاشة؛ ولا ترتبط هذه الوضعية فقط بحالة الخوف التي ما فتئت تنتشر بين الأوروبيين، لكنها تتصل أيضاً بهوس الدول الأوروبية من أجل تقديم مزيد من السلاح والذخيرة لحكومة كييف؛ حيث نلاحظ سعياً أوروبياً حثيثاً من أجل توفير المعدات العسكرية والذخائر لأوكرانيا التي تستهلك أكثر من 5000 قذيفة يومياً، وهو معدل يفوق ما يمكن أن تنتجه مصانع الذخائر في كل من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، الأمر الذي يشكل ضغطاً كبيراً على المصانع العسكرية الأوروبية.

 وكان الاتحاد الأوروبي، قد صادق في 20 مارس/آذار الماضي، على مخطط يهدف إلى تخصيص موارد مالية إضافية لمساعدة الصناعات العسكرية على الوصول إلى معدلات إنتاج عالية قادرة على توفير ما تحتاج إليه الدول الأوروبية من معدات عسكرية، خاصة أن بروكسل تريد تجنب شراء الأسلحة من خارج دول الاتحاد في سياق تجسيد ما يسمى بالاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم العواصم الأوروبية تشكك في قدرة الصناعات العسكرية المحلية على تحقيق الاكتفاء الذاتي على المدى المنظور. 

 وهناك فضلاً عن ذلك دول في شرق أوروبا وعلى رأسها بولونيا تفضل المعدات العسكرية الأمريكية على المعدات الأوروبية، بالنظر إلى العلاقات الاستثنائية القوية التي تربط بين واشنطن ووارسو والتي تبدو جلية من خلال وجود سفير أمريكي في العاصمة البولونية من أصول بولندية وهو ابن بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق لكارتر المولود سنة 1928 في وارسو.

 وتشير التقارير الدولية إلى أن هناك توجهاً عاماً في أوروبا وفي كل دول العالم يهدف إلى مضاعفة الإنفاق العسكري على حساب مشاريع التنمية ومحاربة الفقر، فقد وصل مبلغ الإنفاق العالمي في مجال التسلح خلال سنة 2022 إلى 2240 مليار دولار أي ما يعادل 2,2 في المئة من الناتج الخام الداخلي العالمي، وتتربع الولايات المتحدة على رأس قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على قطاع الدفاع على المستوى العالمي بمعدل يصل إلى 39 في المئة متبوعة بالصين بمعدل 13 في المئة.

 ويمكن القول إن أعلى نسبة ارتفاع في ميزانية التسلح في العالم، تم تسجيلها في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية وتحديداً في الجانب الشرقي من القارة بعد قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، وتمثل اليونان أكثر الدول الأوروبية إنفاقاً مقارنة بناتجها الداخلي الخام، وتظل المراتب المتقدمة في ميزانيات الدفاع داخل القارة الأوروبية من نصيب بريطانيا وفرنسا إلى جانب ألمانيا التي رصدت خلال السنة الماضية 100 مليار يورو لتطوير قدراتها العسكرية. 

 أما بولونيا، العدو اللدود لروسيا، فمن المنتظر أن يستمر ارتفاع معدل نفقاتها العسكرية خلال السنوات المقبلة، حيث وقعت عقداً بقيمة 10 مليارات دولار لشراء 500 قاذفة صواريخ من طراز «هيمارس» الأمريكية، أي بعدد يفوق العدد الإجمالي الذين تمتلكه أمريكا فوق أراضيها، كما وقعت صفقة لشراء عدد ضخم من الدبابات والطائرات من كوريا الجنوبية.

 وقد دفعت هذه التطورات المتعلقة بالسباق نحو التسلح في أوروبا الباحث فليب إسكاند إلى الحديث عمّا أسماه التحوّل الواضح للدول الأوروبية، لاسيما الشرقية منها، نحو اقتصاد الحرب، إضافة إلى تضاعف عقود التسلح؛ بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات اقتصادية على مسار تطور الصناعات التحويلية وعلى الانتقال الطاقوي نحو مصادر الطاقات المجددة في أوروبا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/44dzvva5

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"