الخطاب وقوة المُثل

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

تقوم السياسة في وجهها الظاهر على الخطاب، فالمؤسسة توجد وتكشف عن نفسها أمام الجمهور عبر الخطاب، إذ تعلن الدول والحكومات والأحزاب عن ماهيتها وأهدافها وخططها من خلال خطاب له مواصفات مؤسّسة على مرجعيات، فأهمية أي خطاب تكمن في قدرته على تبنّي مرجعيات لها قاعدة جماهيرية واسعة، أو ذات اهتمامات ومصالح محدّدة.

الخطاب بهذا المعنى شكل من أشكال الإيديولوجيا، لا يركّز فقط على الماضي، بل يتوجه إلى ما ينبغي أن يكون، ويتحرك في مساحة واسعة بين سردية عن التاريخ وبين سردية عن المستقبل، وتصبح المؤسسة الحامل الذي يعوّل عليه في تحقيق المستقبل المنشود، وعلى الجماهير أن تنخرط في المؤسسة أو تناصرها من أجل تقريب ذلك المستقبل، وجعل السردية عنه واقعاً متحقّقاً. يتضمن الخطاب المصالح، لكنه لا يتعاطى معها عارية، وإلا فقد بريقه، وفقد انتمائه إلى عالم السياسة من جهة، وعالم المُثل من جهة ثانية، فهو لكي ينتمي إلى عالم السياسة عليه أن يتشبّث بالمُثل، وأن يجعل منها أيقونات إذا ما لزم الأمر، لا يأتيها الباطل من أمام أو من وراء، فأي مساس بهذه الأيقونات هو مساسٌ بالمشروع الذي يدافع عنه الخطاب أو يبشّر به، وبالتالي هو تقويض للمؤسّسة نفسها، ولمصالح القائمين عليها، والمستفيدين منها.

هذه العلاقة البنيوية بين السياسة والخطاب تطرح إشكاليات عدة، فالسياسة أولاً وأخيراً تنتمي إلى عالم الواقع، بينما يلتمس الخطاب الكثير من الطوباوية، التي تمدّه بأسباب الشرعية، وتؤمّن له مساحة اجتماعية/ تاريخية يتحرك فيها، ومن خلال ديناميّاتها، وهو أكثر قدرة وفاعلية في التعاطي مع ممكنات المساحات الاجتماعية من المصالح المجرّدة، فالبشر في نهاية المطاف ليسوا مجرّد كائنات مصلحية فقط، وحتى مصالحهم العارية تحتاج إلى تبرير، وهو بالفعل ما يقدّمه الخطاب لهم.

ينشأ الخطاب، وبغض النظر عن جانبه الطوباوي، من احتياجات واقعية، دون أن يعني ذلك أنه واقعي، أو قادر على تحقيق احتياجات واقعية، وهذه النقطة واحدة من نقاط عدة يمكن بناءً عليها تقييم الخطابات، كما أن الخطابات الواقعية في مكان وزمان محدّدين ليست بالضرورة قابلة للاستمرار في بنيتها وشكلها إلى ما لا نهاية، فتحولات الواقع نفسها تفرض تحوّلاتها على الخطاب، وتدفعه إلى الانزياح أو التجديد، وفي كلتا الحالتين فإن من يدفع الثمن، سلباً أو إيجاباً هو الواقع.

في منتصف القرن التاسع عشر، أو ما يعرف عالمياً ب«ربيع الأمم»، صعد الخطاب القومي في أوروباً، مدفوعاً بتطورات هائلة كانت قد أحرزتها الثورة الصناعية الأولى خلال أكثر من قرن، وهذا الصعود للخطاب القومي، جاء كاستجابة لتحوّلات الواقع، وظهور الطبقة البرجوازية، وسعيها إلى إنهاء الحكم المطلق، وتأسيس دول وطنية، على أساس قومي، ما قوّض خلال عقود إمبراطوريات قائمة، وأرسى مكانها الدولة/ الأمة، بشكل جديد من الحكم، يتناسب مع الصعود الرأسمالي الجديد في أوروبا.

لكن هذا الخطاب القومي الذي كان مقدّمة لعصر جديد، راح في القرن العشرين ينغلق على ذاته، ويكتسب صفات استعلائية، دفعت بأوروبا إلى حربين عالميتين، خلال ربع قرن، وفي مقابل هذا الخطاب القومي، كان الخطاب الأممي، الذي يبدو أكثر انفتاحاً، ومحمولاً على إيديولوجيا تبشّر بالعدالة، وبعالم تزول منه الفوارق الطبقية، يتحوّل مع الوقت إلى رأسمالية الدولة بدلاً من رأسمالية السوق، وإلى اشتراكية الفقر، بدلاً من التمتّع المتساوي بالثروات، وإلى نموذج حكم متصلّب، عدا عن الممارسات غير الإنسانية التي أودت بحياة ملايين البشر في الدول التي حكمتها أحزاب أممية.

كيف يمكن وضع حدود عقلانية على الخطاب، وكيف يمكن مقاربته، وما البديل عن الخطاب؟

الإشكالية الكبرى لحظة الإجابة عن هذه الأسئلة، تكمن في العلاقة البنيوية بين السياسة والخطاب، لكن تجاوز هذه الإِشكالية يمر بشكل من الأشكال بالاعتراف بها أولاً، أي نزع القداسة عن الخطاب، وجعل نقده ممكناً، بل وواجباً، وذلك لمنعه من صناعة أيقونات، والبقاء في الواقع والتاريخ، أي في الممكن والاحتمالي معاً، وهما عنصران متغيّران، وهذا بالضبط ما يعطي العمل أهميته، ويعيد الاعتبار لعالم الإنتاج على حساب عالم اليوتوبيا، واعتبار صناعة قوّة مُثل مسألة راهنة أبداً، وليست فكرة سابحة في فضاء مجرّد.

إن مراجعة نقدية لقرن عربي كامل، وللخطابات التي سادت فيه، كفيلة بأن نظهر فداحة الكارثة الموجودة في الواقع، ففي الوقت الذي كانت فيه المؤسسة (حكومة، حزب، جماعة) تُعلي من شأن الخطاب، كانت في الوقت ذاته تقدّم قوة مُثل متناقضة تماماً مع ما يتضمنه الخطاب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/476td3uj

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"