عادي

الصدق طريق حاكم الشارقة إلى قلب القارئ

23:29 مساء
قراءة 4 دقائق
بارك جاي وون

بقلم الدكتور بارك جاي وون*
يشير مؤلّف كتاب «سرد الذات»، صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمّد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في مقدّمته إلى التجربة والماضي، الأمر الذي يسود أعمال السيرة الذاتية عادة.

ويبدو لي أنّ المؤلّف يسأل دائماً عن معنى الأشياء التي مضت، كما يبدو أنّه على يقين بأن تأويل التجربة الماضية من السّبل المؤدّية إلى معرفة ماهية الحياة، ثمّ إلى تجديد فهم الذات، هذا يعني أنّ الأحداث الماضية لم تنته، ولم تتحجّر لدى الشخص اليقِظ؛ لأن الماضي قد يصير مفتاحاً لفهم أسرار الحاضر، وأساساً لبناء مستقبل أفضل.

والسرد – عنوان الكتاب – حديث عن الأحداث الماضية، فهو استرجاعيّ من حيث الطبيعة. والسرد وسيلة للتواصل مع الآخرين، حيث يفهم المستمع، أو القارئ، ما مرّ على السارد من الوقائع بواسطة أشكال السرد: الحديث أو الإخبار أو الرواية أو القصّ، لكنّ السرد لا يوضّح الوقائع والظروف فحسب، إنّما يكشف عن شخصية القائم بالسرد،أيضاً. وأؤكّد أن المؤلّف على دراية بأن للسرد بُعداً آخر، وهو أنه وسيلة للتعمّق في ذات الشخص الذي يسرد. فأصبح من الواضح أن المؤلف يحاول أن يستكشف سرّ ذاته باستخدام السرد. ويعي المؤلّف أنه موجود، سواء قام بالسرد أم لا، إلا أنه يتقدم إلى الأمام؛ ليكتشف ذاته العميقة.

يصف المؤلّف أحداث الماضي تارة، ويسجّلها، ويوثّقها تارة أخرى، وهذا يتّضح خاصة عند قراءة الفصل الحادي عشر الذي يتناول المدّ القومي في الشارقة. ومع ذلك، فلا ينظر إلى الأحداث بعين المؤرّخ، حتى ولو قدّمها بالترتيب الزمنيّ التتابعيّ في بعض أجزاء الكتاب. وبخلاف هذا، فإن المؤلّف ينظر، في أغلبية الصفحات، إليها نظرة الإنسان العادي، فيتحدّث عن حياته في المدرسة القاسميّة من وجهة نظر طالب، ويتحدّث عن العمليات ضدّ القاعدة البريطانيّة بنظرة صبيّ، ويروي حياته في كلية الزراعة بجامعة القاهرة بنظرة طالب جامعي وافد، ويصف تعاملات رجال السلطة المصرية بنظرة شاب عربي.

هذا يعني أن المؤلّف لا يحاول إلقاء الضوء الشامل على الأمور، ولا من الزوايا كافة، بل يقدّم ما مرّ به برؤية صادقة. ويكمن صدقه في أنّه يتحدّث عما رآه في الواقع الذي هو جزء منه. وبهذا قد يملأ المؤلّف فراغاً تركه المؤرّخون المتخصّصون.

ويركّز المؤلّف على الوصف الموضوعي في المقام الأول، مع عدم نسيان ذكر أخطائه، وتبريرها أحياناً. ومن الأشياء الّتي شوّقتني أنّ الكتاب يقدّم شهادات المؤلّف لما جرى في الأسرة الحاكمة في فترة زمنيّة معيّنة. ولا يكشف المؤلّف عن كلّ شيء، لكن مَن يستطيع أن يسرد أوضاعاً وراء الستار بعين المنتمي؟ وأين يمكننا أن نقرأ عن شريحة من حياة الحكّام في غير هذا الكتاب؟

يستطرد المؤلّف متحدّثاً عن عدد كبير من الموضوعات، بما فيها الحوادث والأخبار والشهادات والتقارير والمذكّرات التي لا يمكن إيجازها في سطور محدودة. ويمكننا القول إن التجارب الواسعة المتنوعة ضرورية لتكوين شخصية الشباب، خاصة الشخصية التي ستتحمّل، ذات يوم، المسؤولية القيادية. وتُنقل تجارب المؤلف إلى القارئ من خلال السرد، والقارئ، بدوره، يقتنع بصدقه، ويتوسّع في فهمه للواقع باستخدام تصوراته الخاصة، ويغيّر موقفه من الحياة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تغيير الحياة نفسها. إن تغيير الحياة من أهمّ وظائف السرد، وأعتقد أن هذا الكتاب قد أسهم، بما فيه من السرد، في تغيير الحياة العربية.

ويقع الحدث الذي ترك لذهني أوضح أثر في مشهد وقف هدم حصن الشارقة، عندما ينصح المؤلّف شقيقه الشيخ خالد بن محمّد القاسمي حاكم الشارقة، آنذاك، بالتراجع عن قراره بهدم الحصن. من السهل أن ننظر إلى هذا الحدث على أنه يمكن الحدوث، لأن المؤلف شقيق الحاكم صاحب القرار. لكنّي أرى غير ذلك، فوعي المؤلّف المتعقل التاريخي هو الذي أوقف عملية الهدم. وأعتقد أن التاريخ لا يستقيم بمحو الآثار غير المرغوب فيها. والتاريخ لا يُنكر ولا يُزال، بل يُؤوّل مجدّداً بروح العصر المستجدّة. ولهذا أفهم أن المشهد يبيّن الثقافة الناضجة التي يتميّز بها المؤلّف.

وأجد في كتاب «سرد الذات» شخصية المؤلّف متعدّدة الجوانب. فإنّه صبيّ جريء ظريف، وطالب متفوّق، وشاب نشيط يسعى إلى العدالة، وما إلى ذلك. وأقترح على القارئ محاولة فهم شخصية المؤلّف بإطار الثنائيات المتضادة التالية: المعرفة العلميّة والبصيرة الأدبيّة، والعالم والشاعر، والصفات الموضوعيّة والذاتية، وفضول الناشط وهدوء الدارس، والتأمّل النقدي والحماسة القومية. سيجد القارئ أن الكتاب يقدّم ذاتاً متكاملة متوازنة.

السيرة الذاتية عامّة، تسجيل لحياة صاحبها، والتي ينوي صاحبها نشر قيمه بين الناس في المجتمع. وفي أثناء قراءة كتاب «سرد الذات» ازداد فهمي لتجارب المؤلّف، إلى جانب الحياة العربيّة في منطقة الخليج عامّة، وفي إمارة الشارقة بصورة خاصّة. كانت بعض هذه المعلومات التاريخيّة مألوفة لي، بينما تعرّفت إلى أشياء أخرى لا تذكرها كتب التاريخ المنشورة. لقد زوّدني الكتاب بحياة الإنسان من لحم ودم، الذي يؤثّر ويتأثّر بأحداث الواقع. وسعدت كثيراً حين أحسست بأنّني بدأت ألمس طرفاً من وجدان المؤلّف ورؤيته للعالم. وأرجو أن تحدث ترجمتي الفرحة نفسها في قلوب القراء الكوريّين.

وأختتم بأمنيتي أن يكون المؤلّف حقّق آماله التي ترد في نهاية الكتاب، حيث قال: «أكون ابناً بارّاً لكبيركم، وأخاً وفيّاً لأوسطكم، وأباً حنوناً لأصغركم».

* مدير معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة سيؤول - كوريا الجنوبية، ورئيس سابق لقسم اللغة العربية بالجامعة، مترجم كتاب سرد الذات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2x2y9esa

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"