عادي
لوحة من فضاء الميثولوجيا الإغريقية

لقاء الفن بالأسطورة في «نرجس» لكارافاجيو

23:57 مساء
قراءة 4 دقائق
كـارافاجيـو

الشارقة: علاء الدين محمود

من أهم الأشياء التي تميز الفنان الإيطالي مايكل أنجلو كارافاجيو «1571 -1610 م»، هو حضوره المستمر، والذي يشبه قصص الأساطير التي شغف بها، وحوّلها إلى أعمال فنية خالدة، وتأثيره الكبير على كل الفنانين والرسامين الذين أعقبوه، بل وأطلق اسمه على تيار فني شمل كل أوروبا، وهو ما عرف ب«الكارفاجيزم»، وتلك المسحة الدرامية التي يضفيها على مشاهد لوحاته الواقعية، وتمكنه من لعبة الضوء والظلال، وقد اتسم كذلك بالجرأة الشديدة إلى درجة أن البابا قد حكم عليه بالإعدام في ذلك الوقت، بسبب واحدة من أشهر أعماله الفنية، وذكر كثير من النقاد أن الفنان كان مصاباً بانفصام الشخصية؛ حيث كان يفكر في أثناء انهماكه بالرسم بطريقتين مختلفتين، ويمزج بينهما داخل القطعة الإبداعية التي يقوم بتنفيذها، فعندما كان يأمره الرهبان برسم لوحة تنتمي إلى المعتقدات الدينية، كان يدمج بين القصة التي يراد منه رسمها وبين مظاهر حياته الشخصية، فكان يوظف الأشخاص الحقيقيين الموجودين في حياته كنموذج يحاكي به شخصيات قديمة أو أسطورية أو دينية، ومن أشهر أعماله الفنية «رأس ميدوسا»، «الدفن»، «سلة الفواكه»، و«الحب ينتصر».

ولد الفنان بقرب ميلان، ظهرت موهبتُه الفنية حين كان في ال 16 من عمره، توجه للدراسةِ في روما، في عام 1600، وبعد أن انتهى كارافاجيو من أول تكليفٍ عام له برسم لوحةٍ بدار للعبادة، كان قد فرض نفسَه كفنانٍ معارض للطبقية والتكلّف الفكري، وعلى الرغم من أن كارافاجيو كُلف برسم العديدِ من الأعمالِ الدينية خلال حياته فإنه عاش حياةً تتسم بالتمرد والبوهيمية، لكن رسوماته تشكل مجموعة من أهم الأعمال المذهلةِ في تاريخ الفن الغربي، كما أنها لعبتْ دوراً محورياً في تعريفِ الفن الإيطالي في القرن السابع عشر.

تعدّ لوحة «نرجس»، أو «نرسيس»، التي رسمت في عام «1599»، على وجه التقريب، من أهم لوحات كارافاجيو، وهي ذات شهرة فنية واسعة، وتنتمي إلى أسلوبية الفنان المولع بالأساطير والروحانيات والغرائبيات، فذلك هو المجال الإبداعي الذي برع فيه بصورة كبيرة، وكانت رسوماته تعبر عن الواقع الاجتماعي والديني خلال الفترة التي عاش فيها؛ حيث كان هناك طلب كبير في روما لملء دور العبادة، والقصور الضخمة بالرسومات التي تتضمن وعياً إصلاحياً ضد الكاثوليكية، وكان كارافاجيو في قلب تلك المعركة؛ إذ كانت أعماله تعبر عن الحكايات الدينية والأساطير، ولكنها تقترب في ذات الوقت من الواقع، ولئن كانت لوحة «نرجس»، تنتمي بصورة أساسية للأسطورة، فإنها لقيت شعبية جارفة؛ حيث إن الفنان استخدم فيها ذات طريقته في معالجة الأعمال ذات الطابع العقائدي، وفي هذه اللوحة يتجلى أسلوبه الذي يعتمد على التناقض بين النور والظلام، أو ما يطلق عليه الإضاءة الدرامية؛ حيث تصبح الظلمة عاملاً مسيطراً على اللوحة، وهي طريقة مغايرة عن السائد من قبل الفنانين حينها، حيث كان كارافاجيو يتمتع بروح ثورية، كما كان مراقباً جيداً للحياة، فقد أراد بشدة أن يتمسك بالواقعية.

اللوحة تستلهم حكاية أسطورية شهيرة تنتمي إلى الأساطير الإغريقية، وتتحدث عن الشاب نرجس الذي كان شديد الجمال على نحو غير طبيعي، وعندما كان طفلاً ذهبت به والدته إلى أحد العرافين ويدعى تيريساس، ليقرأ طالعه، فقال لها ذلك العراف: «لو أن هذا الفتى ظل عائشاً دون أن يتعرف إلى شكله، فسوف ينعم بالعمر المديد في هذه الحياة»؛ ويقصد أن نرجس لو لم يبصر صورة وجهه ويكتشف مدى جماله الخارق الفتان، فسوف يعيش طويلاً ويعمر، غير أن الفتى نرجس، ولسوء حظه، أبصر وجهه في غدير للماء، عندما كان يلعب مع بقية رفاقه الشباب، عندها وقع في حب نفسه وهام بها بصورة جنونية لا شفاء منها، وظل يقبل وجهه المنعكس على صفحة الينبوع ويلف ذراعيه حول جسده، لتظهر في مشهد البركة وكأنه يعانق نفسه، وظل على تلك الحالة رافضاً الطعام والشراب، كما أعياه الحب العبثي الذي لا طائل منه، ليدركه الموت وهو على تلك الحالة، وعقب وفاته تحول جسده إلى زهرة صفراء جميلة، وهي التي صارت تعرف ب«زهرة النرجس» المعروفة إلى يومنا هذا؛ حيث إن تلك الأسطورة قد خلدت بصورة عجيبة؛ إذ صارت مصدر اهتمام استثنائي للباحثين والفنانين والفلاسفة، وبصورة خاصة علماء النفس، الذين طوروا منها نظرية «عقدة النرجسية»؛ حيث باتت النرجسية تشير إلى الاستغراق في الغرور بطريقة لا فكاك منها.

أجمع الكثير من النقاد ومؤرخي الفنون على أن اللوحة هي فعلاً لكارافاجيو، بعد شكوك كبيرة دارت حول نسبتها؛ حيث إن كل الظروف المحيطة بتلك اللوحة من حيث التكليف برسمها ومن حيث تنفيذها، كلها كانت مجهولة، بل إن لوحة نرجس لم يتم قبول نسبتِها إلى كارافاجيو سوى منذ فترة تاريخية وجيزة، فتحليل الأسلوب المتبع في تنفيذِ العمل قاد إلى حقيقة أن تلك اللوحة هي من أعمال الفنان الذي انعكس أسلوبه على فناني القرن العشرين؛ حيث تبنى العديدُ منهم طريقة كارافاجيو بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومن بين أبرز هؤلاء فرمير، روبنز، هالز، ورامبرانت، ويلفت بعض النقاد إلى أن لوحة «نرجس»، هي محاولة لتسليط الضوء على صفة الغرور، وذلك رغبة من الفنان في التحذير من أن مثل هذه النشوة العابثة والإعجاب بالذات، يمكن أن يقود إلى ظلام الروح وموتها، وقد تناول الفنان، بالفعل، صفة الغرور في العديد من أعماله الأخرى.

وصف

يظهر في مشهد اللوحة الشاب «نرجس»، وهو ينظر إلى سطح الماء ليتأمل وجهه، وهو يرتدي قميصاً يميل إلى اللون الأبيض، وهو ذات القميص الذي استخدمه الرسام في لوحات أخرى؛ حيث درج على إعادة إنتاج ذات الأزياء، ويستغرق الشاب في النظر إلى ذاته في الماء، ويظهر وهو يقوم بحركة أقرب إلى وضعية العناق، وتكمن براعة الفنان في التعبير عن المشهد عبر توظيف التباين بين النور والظلال، وتشعر اللوحة المتلقي بنوع من الحزن والكآبة، فنرجس يظهر بعينين مغلقتين بظلال عميقة، بينما يحدق بصره بثبات في الماء ذي اللون الأسود.

اللوحة وجدت صدىً شعبياً ونخبوياً واهتماماً خاصاً من قبل الأكاديميين، وهي موجودة الآن في المعرض الوطني للفنون القديمة في متحف إيطاليا في روما.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3nuba8dh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"