مؤسسات العبادة والوحدة النفسية

00:15 صباحا
قراءة دقيقتين
د. علي فخرو
في مقالين سابقين بيَّنَّا بعض أسباب وباء الوحدة النفسية العولمي. من الأسباب الأخرى التي يُشار إليها تقلّص التفاعل الاجتماعي الإنساني في أحياء المدن الحديثة.
فبنية مساحات الترابط في الأحياء قد تقلّصت كثيراً. وقد رأينا في السنين الأخيرة السكاكين الحكومية وهي تقلّص المكتبات العامة والمتنزهات الشعبية للأطفال وكبار السن، وتقلصت أعداد المنتمين إلى عضوية المؤسسات الدينية، والنوادي الاجتماعية، والأحزاب وجمعيات الأعمال الخيرية، وتجمّعات النشاطات الثقافية المشتركة، والمجالس العائلية، والديوانيات في الأحياء.
وحتى في المجمعات التجارية تراجعت عادات المصافحة والتحية التعارفية، أو السؤال عن أسباب الغياب المفاجئ.
وقد أثبتـــت دراســــات ميدانية كثيـــرة حقيقة أنـــه كلما تقلصت المساحــــات العامـــة المشتركـــة -مثـــل التي أشرنــــا إليها- زادت وانتشرت مشاعر الوحدة النفسية، وأحاسيس الضياع وعبثية الحياة عند الملايين من ساكني المدن الحديثة.
وهذا بدوره لا يمكن أن يقود إلا إلى كثير من سوء الفهم والظنون المتبادلة بين مختلف مكونات المجتمع المحلي؛ ما يسهّل للحركات الشعبوية الكارهة للأغراب الآخرين أن تحشد كرنفالات الكراهية المتبادلة والصراعات المختلفة المبتذلة من أجل مكاسبها السياسية الأنية الانتهازية.
ومع توفر وسائل التواصل الاجتماعي الجماهيري بشكل لم يعرفه العالم قطّ من قبل تنعكس كل موبقات المشاكل التي ذكرنا كسيل تأجيجي تجييشي منهم، ويزداد عدد حمَلة السكاكين دون شعور بالذنب ودون محاسبة من صحوة الضمير.
إذ كيف تتحرك مشاعر الذنب وصحوات الضمير إذا كانت الوحدة النفسية تتطور شيئاً فشيئاً لتسبب كل أنواع الأمراض العقلية، والنفسية، والروحية؟
ألم يصرّح بحار ملحمة الشاعر كولريدج وهو يواجه أفق البحار الممتدة وحيداً، وحيداً، وحيداً بأن روحه في ألم ووجع؟ ألم تُظهر الدراسات أن ضحايا الوحدة معرّضون بمقدار عشرة أضعاف للهبوط النفسي والقلق مقارنة بالناجين من وباء الوحدة العصري؟ بل ألا تقود مشاعر الوحدة الشديدة إلى انتحار البعض؟
يجب أن نكون صرحاء أن أكثر ما يساهم في وصول المجتمعات المحلية إلى أن يسكنها ضحايا الوحدة النفسية هو سياسات البخل والتقتير التي تمارسها البلديات والحكومات بشأن توفر الخدمات المحلية بدعوى ضرورة الاقتصاد في المصروفات وموازنة الميزانيات. آن لنا أن نناقش هذا الموضوع بلا غمغمة بعد أن وصل الأمر إلى مستويات الوباء.
من هنا يشعر الإنسان بالأهمية الاجتماعية، والنفسية، والروحية التي تقف وراء وجود المساجد لعموم المسلمين، والمآتم الحسينية لأتباع المذهب الشيعي؛ إذ مهما تعمّقت ممارسات التباعد الاجتماعي في المجتمعات المحلية في هذا العالم تظل مثل هذه المؤسسات عند المسلمين، ومثلها الكنيسة عند الإخوة المسيحيين، ملاذاً بالغ الأهمية للتخفيف من وباء الوحدة النفسية.
فالنشاطات التعبّدية والاجتماعية المشتركة، واللقاءات المتعددة في اليوم بالنسبة للمسجد لا يمكن أن تقود إلا إلى شعور الأفراد بنوع من الطمأنينة النفسية عندما يلتقون يومياً بمن يتفاعل معهم، ويهتم بأحوالهم، ويسأل عن أسباب غيابهم، و يزورهم في مرضهم، ويواسيهم أثناء محنهم ووفاة أحد أقربائهم.
لقد أدركت الديانات هذا الأمر منذ قديم الأزمنة، وواجهته بوجود مؤسسات العبادة المشتركة، وكأن الحكمة والرأفة الربانية كانت تتهيأ لمواجهة هذا الانزلاق العولمي المؤلم الحالي نحو الوحدة النفسية في المجتمعات المحلية.
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ysbn5j9v

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"