تركيا أردوغان وأعتاب أوروبا

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

كُتب الكثير حتّى الآن حول مستقبل تركيا الأردوغانية الذي لم يتجدّد مع الانتخابات الأخيرة لأردوغان، لكن المتابع بدقة لما يُنشر أو يُقال خلال الطاولات المستديرة في أوروبا وبريطانيا تحديداً، يستحق الاهتمام لتفسير السياسات التي لم تفرز متغيراتها من النوافذ التركية المتدفقة بالتحديات والقلق. 

الغرب عموماً مسكون بأحوال المسلمين وفهم مستقبلهم، حيث تتقاطر مقولات التعدّد والتنوّع وتجدد الريبة في النظرة إلى إسلامية تركيا. ليس المقصود شؤون الدين والدنيا بالمعنى الفكري والتحليلي الممدود فوق طاولات الغرب فقط، سواء في الجامعات أو الحلقات والأنشطة اليوميّة والمقاربات البحثية والنصوص التي تكتسح الثقافة الجديدة المدموغة بالإسلام، بل بالتوسّع الملموس إلى درجة صارت تتقدّم فيها العناصر الإثنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسسية والعنصرية والنبذ المرتجل الممكن اختصاره بالإسلاموفوبيا موضة الوجهة الأردوغانية. 

 ولا بدّ هنا من فاصلة لبنانية في المجال بعد تعثّر الانتخابات البرلمانية لرئيس الجمهورية اللبنانية والخوف من تشريع أبواب الفراغ على مصاريعها بما جعل من لقاء الرئيس الفرنسي ماكرون مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في باريس نافذة مفتوحة يترصدها اللبنانيون الذين فاتهم معنى هذا الاهتمام الفرنسي بلبنان الذي بالرغم من ارتباطه بلبنان الكبير المؤسس منذ مئة سنة، إلاّ أنه اهتمام يفترض أن يرسم أمام اللبنانيين مثلثاً مقفلاً جديداً قوامه زاويتان: زاوية فرنسا المسكونة بقارة إفريقيا، وزاوية طبقات ناهضة سياسياً أستناداً إلى تاريخ طويل للأثرياء اللبنانيين ورجال الأعمال الجنوبيين تحديداً، ومدى انخراطهم التاريخي في القارة الإفريقية، حيث راكموا ثرواتهم وعلاقاتهم، وتمّ توظيفها في فرنسا وأوروبا ولبنان في المناطق الجنوبية المهملة أساساً من الحكومات اللبنانية المتعاقبة، والتي يمكنني ترجمتها حالياً بتحوّلات الوجهة الفرانكوفونية اللبنانية من تاريخها الديني القديم نحو الاقتصاد والمال والأعمال، أعني من جبل لبنان إلى جنوبي لبنان بنفطه وغازه وحدوده ومستقبل السلام، ولهذا بحث قادم أكثر من ضروري. 

 بالعودة إلى تركيّا يمكن الاعتراف بأن إسلاميتها منذ ال2002 كانت تستند إلى الاعتراف الأمريكي المدروس بخبرتها الموهومة، بهدف دفعها نحو دورٍ في البلاد العربية والإسلامية التي حكمتها تركيا العثمانية استناداً إلى مرجعية بائدة وواحدة طوال 415 سنة تقريباً قبل أن تسقط في فراشها مريضة في أعقاب الحرب العالمية.

 كان الفخ الأمريكي فجّاً في إغراء تركيا بتقديم نفسها، كنموذج معاصر لما أسموه بالإسلام الجديد أو المعاصر، وجاءت النتيجة أن سقطت الدولة الفجّة ولم تنضج، لأنّ التربة لا تقبل التحوير أو التزوير في قدسيتها وإنباتها. وضاعف من حبل العقد تشنج الولايات المتحدة وغيرها.

 تكاد تركيا اليوم تُضاعف هذا الخواف الأوروبي في الإيديولوجيات السياسية كما في العقل المنذهل بتجديدٍ يهدّد هويات الدول والشعوب والمهاجرين، وكيفية هضمهم أو التعامل أو التخالط معهم. أنت تلمس اليوم ثقافات البحث الجدي لتنقية أوروبا من هذا التطلّع الملحاح ل«الإنتقام» التركي لفض تلك العقدة التاريخية لأردوغان للانضمام إلى أوروبا الموحّدة، عبر المكابرة الدائمة بدفع المسلمين نحو الأبواب تأهّباً نحو أوروبا، بهدف مضاعفة قلقها الديني الذي بلغ الاستحالة في نظري. 

 تفرز هذه الأجواء الرتيبة والقلقة مجتمعةً، صعود الفكر والمناقشات المتشنجة لا المقاربات الرزينة تجاه تركيا، بحثاً عن استنباط أصول الحكم المعاصر ومستقبله من ناحية الشرق، بعدما طغى على الفكر البشري ما أبهر العديد من مفكّري الشرق الإسلامي وطلابه، حول مسألة هجران الغرب وابتعاده عن الأديان منذ الثورة الفرنسية العلمانية، مروراً بالبولشيفية، وصولاً إلى الثورات الملوّنة التي استلهمت مختلف الألوان والأشكال في تحريك الشعوب.

 لن تنصاع أوروبا الموحدة باختلافاتها الكثيرة لتركيا، حتّى ولو بقيت واقفة فوق عتبة أوروبا إلى الأبد، لأنّ هناك علاقات متباينة لسياساتها مقابل الطيف القادم من الجزيرة العربيّة والخليج، بحلله وفخامته وصحاريه وكنوزه ودبلوماسيته ونهضته ومعاصرته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3k8ydfsh

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"