إفريقيا و«ديمقراطية الدبابات»

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

عانت مجمل الدول الإفريقية من ويلات الاحتلال الغربي، منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تعرّضت شعوبها لأفظع الجرائم، فيما نهبت خيراتها وثرواتها، ما كان له الأثر السّلبي في مسارها السياسي والتنموي، الذي عمقته ظروف الحرب الباردة بصراعاتها واستقطاباتها المختلفة، رغم حصول دول القارة على استقلالها.

 وقد زادت من حدّة هذه المعاناة ظروف الجفاف والمجاعات، وانتشار الأوبئة والأمراض والفقر، وهيمنة نظم استبدادية على السلطة، علاوة على تفشّي الصراعات الداخلية المسلّحة، وتعاقب الانقلابات في عدد من الأقطار.

 وقد عاشت الكثير من دول القارة على إيقاع الكثير من الأزمات التي أثّرت بالسّلب في أوضاعها السياسية وكرست الاستبداد، حيث هيمنت النظم العسكرية على الحكم، وتم تغييب الشعوب عن صناعة القرارات المختلفة؛ فيما تفشى الفساد السياسي والمالي والإداري، وتنامت المعضلات الاجتماعية والاقتصادية.

 ورغم هذه الظروف؛ نهجت بعض الدول الإفريقية آلية المؤتمرات كسبيل للتغيير السّلمي للأنظمة التسلّطية من خلال المفاوضات التي غالباً ما تمّت تحت ضغط شعبي عارم.

 وفي بداية التسعينات من القرن المنصرم، وتحت ضغط هذه العوامل مجتمعة، بدأت شرعية العديد من النظم الحاكمة داخل القارة تتآكل. ويبدو أن التحولات الكبرى التي شهدها العالم خلال هذه الفترة، وفّرت لكثير من الشعوب الإفريقية فرصاً كبيرة للمطالبة بالحرية والديمقراطية، وباحترام حقوق الإنسان، واعتماد إصلاحات تدعم التحول نحو الديمقراطية.

 وهكذا، تراجعت نسبة الانقلابات، وانخرطت الكثير من البلدان في تنظيم انتخابات دعمت التداول السلمي على السلطة، رغم بعض الانتقادات، الداخلية والدولية، التي شككت في مصداقيتها، وفي الشروط غير السليمة التي اعترتها. وقد بادرت الكثير من البلدان إلى اعتماد إصلاحات سياسية مهمة، توّجت بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وبإقرار دساتير تضمّنت مقتضيات اعترفت بالتعددية الحزبية والسياسية، ونصت على مبدأ الفصل بين السلطات، ودعّمت الحقوق والحريات.

 وتبرز تجارب العديد من الدول الإفريقية الدور الكبير الذي لعبته الضغوطات الخارجية، بحيث لا تخفى تأثيرات المشروطية الدولية في هذا الخصوص، حيث لجأت الكثير من الدول المانحة والمؤسسات المالية والاقتصادية إلى فرض شروط مرتبطة بدعم الإصلاح السياسي والاقتصادي، في مقابل استمرار تدفّق المعونات والمساعدات والقروض لهذه الأقطار.

 ورغم هذه المكتسبات التي حملت نخباً سياسية جديدة إلى السلطة، وعززت الإصلاحات الاقتصادية في عدد من الدول الإفريقية، إلا أن عودة الانقلابات العسكرية بقوة؛ شكّل ضربة لكل هذه الجهود، ودليلاً على أن بناء الدولة في إفريقيا ما زال بحاجة إلى مبادرات مكثفة لإرساء أسس وطيدة تضمن ترسيخ التداول السلمي على السلطة.

 أثارت هذه الانقلابات أسئلة حارقة؛ حول العوامل التي سمحت ببقاء المؤسسة العسكرية كفاعل سياسي قوي داخل إفريقيا، كما برزت أسئلة أخرى بصدد مستقبل الديمقراطية داخل القارة، وحول مدى قدرة المؤسسات العسكرية على المساهمة في تعزيز التحول الديمقراطي، والقطع مع مظاهر الفساد والهشاشة والتبعية..

 وعادة ما يتذرع قادة الانقلابات العسكرية ب«إنقاذ الشعوب من الاستبداد ومن التبعية للخارج»، لكن سرعان ما تنكشف الحقائق، ويتحول هؤلاء (القادة) إلى خطر على التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما تبرزه الكثير من التجارب في إفريقيا والمنطقة العربية.. ولعل هذا ما دفع دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية التي عانت لعقود من ظاهرة الانقلابات العسكرية إلى استخلاص العبر؛ بوضع الجيوش تحت سلطة السلطة المدنية الشرعية، والعمل على الحدّ من حالة الشك التي سادت لعقود بين الطرفين.

 وتتباين المواقف بشأن الأدوار التي يفترض أن تتحملها المؤسسات العسكرية خلال مراحل مفصلية من التاريخ السياسي للدول، بين من يؤكد حيادها الكلي عن اللعبة السياسية والاستئثار بحماية أمن الدولة والأفراد وتأمين التحول السلمي نحو الديمقراطية، وبين من يلح على تدخلها - ولو بصورة مرحلية – ومن منطلق المسؤولية، لصدّ مختلف التيارات والفصائل الهدّامة؛ وحماية الديمقراطية من الهيمنة والفوضى والتدخلات الخارجية في مرحلة تتسم بضعف مختلف القنوات الوسيطة من أحزاب سياسية ونقابات.

 إن المراهنة على الجيوش في هذا الخصوص، لا ينبغي أن تتجاوز حدود دعم المرحلة الانتقالية؛ عبر توفير الشروط اللّازمة لبناء دول مدنية تتسع لمختلف التيارات والمكونات؛ وإرساء حوكمة أمنية تدعم شروط التنمية الإنسانية والممارسة الديمقراطية، وتحول دون حدوث انتهاكات حقوقية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/n44jnu8v

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"