أزمة إسرائيلية عميقة

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

تبدو إسرائيل على مشارف أوضاع جديدة لم يسبق أن حصلت منذ تأسيسها في العام 1948. ولم يعُد الانقسام بين اليمين والمتطرفين من جهة واليسار والشرقيين من جهةٍ ثانية مقتصراً على تجاذباتٍ ديمقراطية في الكنيست، أو عبر وسائل الإعلام، بل خرج الخلاف الجذري إلى مساحة بدأت تتبلور فيها مشاهد انفصالية، أو تفكّك اجتماعي، قد يتحول في أي لحظة إلى انشطار سياسي عمودي يهدد مستقبلها.

 عند تأسيس إسرائيل على أرض فلسطين قبل 75 عاماً حصل خلاف كبير بين المجموعات الإرهابية التي أقدمت على تفجير فندق الملك داوود في القدس بزعامة ميناحيم بيغن والجناح الذي كان يقوده ديفيد بن غوريون، الذي تحوّل في ما بعد إلى جيش الدولة النظامي. وكاد الانقسام أن يحول دون إعلان تأسيس الدولة لولا تدخُل كبار رجال منظمة «الإيباك» الأمريكية التي كانت تجمع المال والسلاح للمجموعات المختلفة من أجل إنشاء الدولة القومية لليهود. وبالفعل فقد نجح قادة المنظمة في تسوية الخلافات بين أجنحة المتطرفين من الجهتين، وأعلن بن غوريون إنشاء الدولة عام 1948 على حساب فلسطين وشعبها الذي ما زال يعاني من القهر والعذاب والتشرُّد حتى اليوم.

 تبدو الولايات المتحدة - وهي الداعمة الرئيسية لإسرائيل - عاجزة عن حلّ المشكلة المتفاقمة هذه المرة، لأن الإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن تتخذ موقفاً مؤيداً للمعارضة الإسرائيلية التي لا توافق على تحجيم دور المحكمة العليا. والمحكمة بمثابة الضامن للنظام الديمقراطي المعمول به، كون إسرائيل من دون دستور، والمحكمة تقوم بدور الضابط الدستوري الذي لا يسمح بتجاوز الركائز التي أُنشئت عليها إسرائيل. ومنظمة «إيباك» التي تتألف من أكثر من 50 ألف ناشط من اليهود الأمريكيين الذين يعملون ليل نهار للدفاع عن إسرائيل ويجمعون لها الأموال الطائلة والمعونات، عاجزة هي الأخرى عن إقناع حكومة نتنياهو اليمينية بصرف النظر عن متابعة تطبيق التعديلات التي أقرتها الكنيست نهاية شهر تموز/يوليو الماضي، وفرضت قيوداً على صلاحيات المحكمة العليا، تمنعها من النظر في القرارات التنفيذية غير المعقولة التي تتخذها الحكومة، كما تفرض قيوداً على تعيين القضاة، وهو ما يهم نتنياهو شخصياً، لأنه يساعده على الهرب من العقاب، بسبب دعاوى مقامة ضده لدى المحكمة.

 ومع عجز الجهات الأمريكية – الرسمية وغير الرسمية – عن حل الإشكالية داخل إسرائيل يتفاقم الصراع، وهو وصل إلى حد الانقسام الحاد، وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن وجود «شعبين مختلفين في دولةٍ واحدة»، والتظاهرات الاعتراضية التي استمرَّت منذ إقرار قانون تعديل صلاحية المحكمة العليا يتزايد تأثيرها، ويتزايد عدد المشاركين فيها، والحشود المشاركة تضغط على قضاة المحكمة لإلغاء قانون التعديل، وهو ما يضع الدولة أمام انشطار حاد، يستند إلى قرارات مشروعة ولكن متعارضة، لأن حكومة نتنياهو وحلفائه المتشددين لن تعترف بقرار المحكمة العليا، برغم أن الأعراف في إسرائيل أعطت لقرارات هذه المحكمة قوة تشبه قوة المواد الدستورية التي تسمو على القوانين العادية.

 والأصعب من كل ذلك هو تمدُّد الانقسام إلى المؤسسات العسكرية والأمنية، وقد شهدت الأيام الماضية تمرداً على الأوامر الحكومية في أكثر من موقع، قامت به مجموعات من الجيش، لاسيما في سلاح الطيران والأطباء العسكريين وفي لواء «غولاني» الذي يعتبر القوة الضاربة الأكثر تدريباً ومهارةً في الجيش، وشارك بعض الضباط والعسكريين في التظاهرات المناوئة للحكومة. وقد لجأت الحكومة ذاتها إلى إنشاء قوة عسكرية نظامية تحمي إجراءاتها، أطلقت عليها اسم «الحرس الوطني» تتبع قيادتها لوزير الأمن القومي بن غفير المقرب من نتنياهو، وخصصت لهذه الوحدة موازنة مالية مستقلة، تسمح لها بالقيام بمهام غالباً ما ينفذها الجيش أو قوى الأمن الداخلي.

 ويترافق مع هذه التطورات غير العادية في الداخل الإسرائيلي تراجع الاهتمام بما يجري على المستوى الخارجي، خصوصاً في الدول التي تعتبر صديقة لإسرائيل، ولدى عدد كبير من اليهود في غالبية دول العالم، ولوحظ انخفاض منسوب الحماسة لدى غالبية هؤلاء لإسرائيل، قياساً بما كان عليه الوضع في السابق، وبعض المنظمات اليهودية بدأت تُشكِّك بأهمية إسرائيل بالنسبة لليهود، ويرى عدد منها أنها لم تعُد ضماناً لمستقبل اليهود، وبسبب سياستها العدوانية تجاه الفلسطينيين تزيد من العداء لليهود في دول العالم المختلفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckcpw88

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"