من تحت الأنقاض تنبت الإنسانية

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

سيظل الإنسان إنساناً، وستظل قيم العولمة المتوحشة محدودة التأثير أمام القيم الإنسانية، عاجزة عن أن تذيبها وتودعها خزائن النسيان. وستظل الكوارث الطبيعية هي أهم الأدلة على أن الإنسان لا يمكن أن يتنازل عن قيمه ومبادئه وثوابته ورفعة خلقه مهما تعاظمت معاناته الحياتية، ولن تمنعه أطماعه أو أحقاده أو عنصريته عن أن يحس بأخيه الإنسان عندما تنال منه أو تهدد حياته كارثة طبيعية، يشاركه الألم ويحاول مساعدته قدر استطاعته.

 وخلال الأسبوع الماضي، اتجهت أنظار أهل الكوكب بجهاته الأربع إلى المملكة المغربية وليبيا بعد الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز في مراكش، والإعصار الذي نال من مدن شرق ليبيا، وارتفعت الأكف إلى السماء تدعو الله أن يحمي البلدين العربيين ويخفف عن شعبيهما آلام الفقد والخراب في المناطق المنكوبة. دعوات بكل لغات العالم ومن كل أعراق وألوان البشر، بعضهم قد لا يعرف موقع المغرب أو موقع ليبيا على الخريطة، ولكنه يدعو بلغته ويصلي وفق ديانته لبشر مثله، تزلزلت الأرض تحتهم أو جرفتهم الفيضانات واهتزت كل القلوب لمشاهد الإنقاذ ودموع الأطفال والكبار ووجع المكلومين والمصابين والمفقودين. ‎ 

زلزال مدمر هو الأقوى في المغرب منذ ستة عقود، قرى تساوت بالأرض وقرى تهدمت وفقدت ملامحها. مشاهد مؤلمة للآلاف يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، بعد أن تهدمت منازلهم ولا مساكن تؤويهم، وأسر مات جميع أفرادها تاركين طفلاً صغيراً، وأخرى تمزقت وانفرط عقدها وفقدت العائل والمدبر، وكثيرون فقدوا البيت والممتلكات، وأصوات ظلت تستغيث أياماً تحت الأنقاض، والحكومة وفرق الإنقاذ تبذل الجهد وتسارع الزمن، ولكن الكارثة كانت أكبر من كل الجهود. 

‎وفي ظل استحواذ زلزال المغرب على اهتمام الكوكب، أفراداً وإعلاماً وساسة، خطف إعصار دانيال الذي ضرب اليونان ثم ليبيا القلوب، لتتقاسم ليبيا مع المغرب المشاعر الإنسانية ومبادرات الغوث الرسمية، بعد أن ضربت السيول والفيضانات المدن، وهدمت البنيان، وقطعت الطرق، ناشرة رائحة الموت، جرفت البشر والحجر والتهمت أحياءً وحولتها إلى ركام، لتعلن ليبيا بعض مناطقها منكوبة، وليعلن مسؤولون أن «المفقودين بالآلاف، أحياء كاملة في درنة اختفت بسكانها وراحت إلى البحر»، ويؤكد آخرون أن «مدينة سوسة باتت تحت المياه بالكامل، وجميع منازلها غرقت». ‎

العالم توحّد أمام هاتين الكارثتين المفزعتين، وهبت الدول والأفراد والهيئات الأممية تعرض المساعدة والمساهمة في إنقاذ العالقين تحت الأنقاض والبحث عن المفقودين ودعم الأسر التي باتت بلا مأوى، وتعلن الحداد تعاطفاً مع الشعبين المنكوبين. إنه انتصار القيم الإنسانية في أوقات الأزمات على ما عداها. ‎بعض الدول سبق فعلها كلامها، وكان في مقدمة المبادرين بالدعم عملياً دولة الإمارات بتسيير جسر جوي إلى المغرب لنقل مساعدات إغاثية عاجلة إلى المتضررين، وتقديم مختلف أشكال الدعم، وإرسال مساعدات إغاثية عاجلة وفرق بحث وإنقاذ إلى ليبيا، للمساعدة على مواجهة آثار الفيضانات والإعصار. ‎الإمارات بادرت وفعلت، وكذلك تضامنت وبادرت مصر والسعودية وغيرهما، والجزائر تناست خلافاتها مع المغرب وعرضت المساعدة. 

العروبة تجسدت في أرقى صورها خلال الكارثتين، لتثبت الشعوب والحكومات أن الجسد العربي واحد، «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»، دول مختلفة بادرت لإغاثة المغرب وليبيا، ولكن تبقى المشاعر العربية فياضة، ولا تقتصر المواقف على القادة فقط بل تشمل الشعوب، لتتعدد أشكال التضامن العربي الرسمية والشعبية، قولاً وفعلاً وإحساساً وتعاطفاً. 

‎كم مرة تكرر مشهد الكوارث الطبيعية هذا العام؟ كم مرة انخلعت القلوب وتضافرت الجهود لنجدة المنكوبين والخوف يكبر من الآتي؟ العالم يتعرض لهجمة شرسة من الكوارث التي تطارد الإنسان وتهدد حياته وتضيّق عليه رزقه بعد التغيرات المناخية التي تركت خللاً في البيئة، وسيشهد العالم المزيد من الكوارث التي تفرض على الحكومات إعادة النظر في طرق وأساليب تعاملها مع الكوكب. 

‎الكوارث تؤذينا، ولكنها في ذات الوقت تنبهنا وتعيد إلينا إنسانيتنا المهددة، وتجدد الأمل داخلنا في أن تنتصر القيم الإنسانية على القيم المادية الجامحة، ومثلما تتوحد المشاعر والمواقف خلال الكوارث والأزمات، ليتها تتوحد كل الوقت حتى يستطيع العالم تجاوز أزماته والحد من صراعاته والتوقف عن إشعال الحروب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4bcbzufy

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"