حسام ميرو
لا تبدو الدولة في المشرق العربي أولوية في أجندة القوى المتنفّذة في العراق وسوريا ولبنان، ولا نقصد هنا فقط، القوى المتنفّذة الخارجية؛ بل في المقام الأول، القوى المتنفّذة المحلية، ولا يرتبط الأمر برمّته بالمصالح الضيقة لهذه القوى؛ بل ما ينبغي رصده، هو الوعي العام بأهمية الدولة، أو لنقل مركزيتها التاريخية، في الحفاظ على المجتمعات ذاتها من الانقراض.
فما تشهده هذه الدول من صراعات، ولئن كان محوره الظاهر، الصراع على الدولة، إلا أنه في حقيقته، سباق محموم على هدّ ما بقي من أركان الدولة، خصوصاً أن الممارسة الواقعية/ الفعلية للسياسة، لدى معظم الأطراف المحلية الفاعلة، موجّهة إلى الدولة قبل كل شيء، وليست الخطابات التي يطلقها السياسيون في الإعلام عن دور الدولة، سوى مواد للاستهلاك الإعلامي، في سياق وضع اللوم على خصومهم، في الوقت الذي يمكن فيه ببساطة قياس تطابق الممارسات لدى معظم القوى (في الحكم أو خارجه)، أي تلك الممارسات التي لا تؤخذ فيها الدولة بالحسبان.
لكن، لماذا تبدو الدولة منبوذة إلى هذا الحد في الممارسة السياسية في المشرق العربي؟ لا يمكن تفسير هذه الظاهرة من دون قراءة سيرورة تشكّل الفكر السياسي في منطقة المشرق العربي، التي عاشت وأنتجت تصوّرات عامة عن الهويات، وضعتها في موضع أعلى من الدولة، فقد بقي سؤال الهوية، بما يتضمنه من أزمات، الشغل الشاغل للجماعات السياسية، التي قدّمت تصورات عن الهوية، إما عابرة للدولة والدول، وإما أضيق من الدولة نفسها التي تقيم في حدودها، وفي الحالتين، كانت حدود الجغرافيا السياسية هي اللعنة الكبرى في تلك التصوّرات، التي ينبغي الانقضاض عليها، بحثاً عن جغرافيا سياسية تطابق الهوية، أي إيجاد واقع مطابق للفكرة، وليس إنتاج فكرة مطابقة للواقع.
في صميم هذا الوعي غير المطابق للواقع، هناك حالة إنكار تعيشها «الذات» المشرقية، وتناقض في الإجابات حول مكوّنات الهوية ذاتها، وأيضاً علاقة الهوية بالهويات الأخرى، وعلاقة مجمل الهويات بالدولة، وفي صميم هذه الأزمة المستمرة منذ سقوط الخلافة العثمانية، وإلى يومنا الحالي، بقي الفكر السياسي في عمومه، أو أقلّه لدى الجماعات السياسية المحلية الفاعلة، يدور في فلك العديد من اليوتوبيات، ما يجعل من عقلانيته، إن وجدت، عقلانية منقوصة، يجري تكييفها لمصلحة اليوتوبيا، بدلاً من استخدامها حدّاً على اليوتوبيا نفسها، خصوصاً أن كل يوتوبيا فيها ما يغري من عناصر، لكنها تبقى في نهاية المطاف، تعبيراً عن رغبات، قد لا تجد واقعاً يطابقها.
التيارات الأساسية الفاعلة في المشرق العربي، ومنذ نشوئها، تبنّت موقفاً معادياً لاتفاقية سايكس- بيكو، أي رفض الحدود السياسية المعترف بها دولياً، بوصفها صنيعة الاستعمار الغربي، وردّة الفعل الأولى هذه، التي تبدو انفعالية، يمكن فهمها، في نطاق ردّ الفعل على انهيار السلطنة العثمانية، ووصول الموجة الاستعمارية الفرنسية- البريطانية إلى المنطقة، لكن استمرار هذه الحالة الانفعالية، وتأسيس تيارات سياسية، بناء على اعتبارها موقفاً واعياً، يعكس حالة الفوات التاريخي لهذه القوى، وتصبح هذه الحالة أشد وطأة، حين تكون مرتبطة بالنخب السياسية، وليس فقط بالجمهور العام.
تسمية الدولة الوطنية، التي نشأت بعد خروج الانتدابات من المشرق العربي، تحتاج إلى إعادة تدقيق، في ضوء المصير الذي آلت إليه، وذلك للتفريق بين مفهومي السلطة والدولة، حيث جرت عملية مماهاة واقعية بينهما؛ إذ يصعب التمييز بين حدود الدولة وحدود السلطة.
في العقد الأخير، استفحلت ظاهرة تراجع مفهوم الدولة، لمصلحة مفهوم هوياتي ضيق، وهو مفهوم المكوّنات، وهو أمر يبدو منطقياً من حيث العجز الذي وصلت إليه الدولة، التي لم تعد قادرة على احتكار العنف، أو ادعاء تمثيل جميع المواطنين، أو تقديم حد معقول للخدمات؛ بل وتقلّص أو غياب وجودها في بعض الأحيان، وقد بدأت المكونات المحلية/ الهوياتية، تنتج بدائل خاصة، لاكتساب شرعية وجودها، بديلاً للدولة، وربما، تمهيداً لإطلاق دويلات مطابقة للهويات الضيقة، أي الذهاب مرّة أخرى، نحو شكل آخر من أشكال اليوتوبيا، التي لا تعترف باتفاقية سايكس- بيكو، لكن هذه المرة، ليس لأن الحدود التي رسمتها هذه الاتفاقية، أضيق من أحلامها (قومية، إسلامية، أممية)؛ بل لأنها أوسع من أحلامها وقدراتها بكثير، وإذا كانت الحالة الأولى، قد تبنّت الدولة ظاهراً، وعملت بمنطق السلطة واقعاً، فإن الثانية تشرعن نفسها ومصالحها من خلال نفي الدولة كلياً، أو الموافقة على وجودها الشكلي، لكن العاجز، ومنقوص الشرعية.