الحاجة لمقدمات عن الهوية

01:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

ما هو معلوم في الهوية، ليس إلا الثابت الذي يكاد أن يكون في الراهن قد استنفد معانيه القديمة، التراثية، العقائدية، الاجتماعية، وأنماط إنتاجها، التي لم تعد موجودة، لكن واحدة من مآسي العالم العربي أنه دار، ولا يزال، في توصيفه للهوية، حول ما هو معلوم، أي حول ما استنفد جلّ ممكناته التاريخية، التي هي، بشكل أو بآخر، أصبحت عائقاً أمام تقديم أسئلة جديدة، تسهم، من الناحيتين النظرية والعملية، في إعادة تشكيل وتشكّل للهوية.

ليست الهوية شيئاً «يؤخذ من أقرب يد»، حتى لو كانت تلك اليد مريحة، أي أنها تقدم لنا الطمأنينة، بل إن الطمأنينة بحدّ ذاتها في تضاد معرفي مع الهوية، فكيف إذا كان الأمر مرتبطاً بالركون إلى المعطى التاريخي الذي لم يعد له سياق في الحاضر، أو لم يعد لسياقه أية قيمة في الراهن؟ وما نعانيه من مشكلات وأزمات وكوارث في العقدين الماضيين، إذا لم نقل، منذ خروج الانتدابات من منطقتنا، له صلة وثيقة، بعدم المجازفة الفعلية، خصوصاً عند النخب، في مساءلة ما هو معلوم، أي المعطى التاريخي، واعتباره ثابتاً، والخوف من إعمال الفكر النقدي في تركتنا الثقافية، بأبعادها الكثيرة، التي لم يعد لديها ممكنات تخدم حاضرنا ومستقبلنا.

ليس من قبيل المبالغة، أن الهرب من مسؤولية نقد المعطى التاريخي ودوره في «هويتنا» الراهنة، يضعنا اليوم أمام ما يشبه المأزق الحضاري، خصوصاً في ما تشهده العديد من مجتمعات ودول منطقتنا، التي تخوض اليوم معارك قاتلة بشأن الهويات المجتمعية، في حالة انتكاس نحو تعريف الهوية على نحو أهلي، ما دون الدولة الوطنية، في استحضار كارثي للطائفية والعشائرية والمناطقية، على تضاد مع تطور حركة التاريخ الحديث نحو الوطنية والقومية، في سياق إنساني وحضاري.

منح الهوية، مطلق هوية جماعية، يلعب دوراً في الحياة المعاصرة، مرتبطاً بقدرتها على إطلاق عمليات التنمية، ومن دون هذا الهدف، أي التنمية، تصبح الهوية شكلاً من أشكال الهروب نحو ماضٍ ما، ودليلاً على عجز التفاعلات الاجتماعية، في إنجاز مسار يخدم وجودها العملي، لكن هذه المسألة الحيوية والحاسمة في حياة المجتمعات والدول الحديثة، تبدو هدفاً تحاربه جهات عدة، داخلية وخارجية، بل تسهم في تآكل ممكناته المادية والبشرية والرمزية، أو تحوّل معناه، من كونه مسألة جذرية لبقاء المجتمعات إلى مسألة شكلية، في خدمة نخب بعينها.

في المنظومة العالمية، لا مكان يمكن حجزه، خارج إطار العمل والإنتاج ضمن تجمعات إقليمية كبيرة، وعلى النقيض، فإن إبقاء المجتمعات والدول عاجزة عن إحداث نمو وتنمية، يتم بحرمانها من بناء تبادل وتكامل مع محيطها الإقليمي، وفق رؤية سياسية وقانونية وقيمية، لها مستوى مرموق من الاستقرار والاستدامة، وسنلاحظ بكثير من اليسر والأسف، كيف فشلت نخب ودول العالم العربي، في بناء تلك المنظومة، التي تسمح لمجتمعاتها ودولها، بإنتاج تجمع إقليمي وازن.

العمل على بناء منظومة إقليمية في العالم العربي، ليس شعاراً، أو نوستالجيا ماضوية، بل مقدّمة ضرورية، وغير كافية، لبناء الهوية/ ات الحديثة، أي لبقاء الهوية ذاتها محمية من الاندثار، لمصلحة هويات أقل شأناً من ناحية الفعالية التنموية، بل معاكسة لمفهوم التنمية نفسه، وهذه المقدمة، ولئن احتوت في شكلها العام شيئاً من الأيديولوجيا، لكنها حكماً يمكن تصعيدها لتكون أيديولوجيا حديثة، معاصرة، مرتبطة عضوياً بالمنجز الحضاري والسياسي والقانوني لحقوق الإنسان، وبهذا المعنى، فإنها أيديولوجية تقدّمية، ببعدها الإنساني.

لكن المضي نحو تطوير بنية اقتصادية تنموية إقليمية في منطقتنا، خصوصاً العالم العربي، ينبغي أن يتأسس على موقف حاسم من قضايا التنوير، أي ثلاثية العقلانية والحداثة والكونية، إذ لا يمكن إعادة تشكيل الهوية وفق متطلبات العصر، من دون تبنّي قيمه، التي أسهمت في تقدّم الإنسانية، وليس الجانب الاقتصادي، سوى أحد وجوه هذا التقدّم، وبالتالي، فإن حسم الموقف، وتحديداً موقف النخب، من هذه القيم، مسألة جذرية، من دونها لا يعود للهوية، أو التنمية، أو التقدّم، معنى، وقبل ذلك، لم يعد ممكناً الحصول على مكان ومكانة في سياق المنظومات العالمية، من دون حسم الموقف بتبنّي الثلاثية آنفة الذكر، أي الذهاب نحو التنوير، مهما كانت الأثمان، لأنها تبقى أقل بكثير من الثمن الذي سيدفع في حال البقاء خارج مسار التنوير، وفعلياً، وأن ما نشهده من تفتّت لدول في المنطقة، إضافة لكونه نتيجة مباشرة للسياسة، لكنه عملياً هو نتيجة ممارسة سياسية مضادة لسياق التنوير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ydurus2r

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"