عن كتب صديقة

00:11 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

د. حسن مدن
طالما تحدثنا أمس عن الكتب الطاردة، التي تحملنا على هجرها منذ صفحاتها الأولى، فلا باس أن نتحدث اليوم عن الكتب التي نحبّ أن نسميها «الكتب الصديقة»، التي لا نمل العودة إليها، وتنشأ بيننا وبينها علاقة صداقة أو ألفة، كتلك التي تجمعنا بصديق وقد تمتد العمر كله، وحتى لو مرّت سنوات على قراءتنا لهذا النوع من الكتب، فإنها تبقى في البال دائماً، ما يحملنا على العودة إليها. تماماً كما يحدث حين يخطر في أذهاننا صديق لم نسمع صوته منذ أيام أو أسابيع فنبادر بالاتصال به لنأنس بحديثه، نعود إلى هذه الكتب فنتأملها من جديد، وقد نفاجأ حين نقرأ في الكلمات ذاتها التي قرأناها من قبل معاني وإيحاءات جديدة.

لكل منا كتاب أو مجموعة كتب تدخل ضمن هذا التصنيف، نعدّها كتباً صديقة لنا، سنعطي مثالاً عليها بكتاب «جماليات المكان» للفرنسي غاستون باشلار، وهو الكتاب الذي تعلّق به الكثير من المثقفين والقراء، حيث خلّف، ولا يزال، صدى واسعاً في مختلف الثقافات واللغات، بما فيها العربية، بعد أن ترجمه إليها الراحل غالب هلسا، ولكن لباشلار، الفيلسوف والناقد والمتأمل والتربوي، العديد من المؤلفات المترجمة إلى العربية والتي لم تنل من الشهرة والحظوة ما ناله كتاب «جماليات المكان» رغم أنها تنطوي على أفكار وتأملات عميقة.

«شعلة قنديل» واحد من هذه الكتب التأملية التي يمكن أن نعدّها صديقة أيضاً، فباشلار لا يفعل أكثر من أن يختار شعلة القنديل موضوعاً، ليجعل منها محور التأمل الذي تنداح من حوله دوائر الأفكار والتأملات، وهي من التنوع بحيث تطال التأمل الوجداني الصرف، والتأمل الفلسفي بكل ما فيه من تجريد وتكثيف واختزال، ويشمل الأمر علم الجمال وتحليل النصوص الشعرية، ولهذا السبب فإنه يحتمل قراءات متعددة، كلما كانت مهارات القارئ أكبر بإمكانه أن يدخل عوالم أوسع وأعمق يقدمها الكتاب أو يقترحها، وحتى القارئ بمهارات قراءة أولى بإمكانه، هو الآخر، أن يقرأ هذا الكتاب بمتعة. هذه آية الكاتب الجيد، أن يكون قادراً على الوصول إلى قراء بمستويات فهم متفاوتة، محققاً لكل منهم متعته الخاصة.

«الشعلة عالم للإنسان وحده». يقول باشلار، وبالقرب منها نذهب في الحلم بعيداً، وبعيداً جداً. «إننا نضيع في الأحلام»، فالشعلة الرقيقة الرجراجة التي تناضل للحفاظ على وجودها جديرة بأن تطلق في أرواحنا، نحن الذين نحسب أنفسنا أقوياء إزاءها، عشرات التأملات والتداعيات والأحلام، ليس أقلها أهمية تلك الفكرة المتمحورة في حقيقة أنه في المعراج من القنديل إلى المصباح يمتد تاريخ مديد من فتوحات الحكمة والمعرفة.

madanbahrain@gmail.com

عن الكاتب:
كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".