داء العالم ودواؤه

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

إذا أجرينا تحليل مضمون لخطابات وتصريحات السياسيين حول العالم، فسنجد أن مصطلح «السلام» هو الأكثر تردداً على ألسنتهم، يطالبون به في كل محفل، ويدعون إلى إحلال السلام العالمي في كل اجتماع، ويكون الأكثر حضوراً وهم أمام الكاميرات والميكروفونات، يستخدمونه مخدراً في لقاءاتهم الجماهيرية وحملاتهم الانتخابية، لكن التطبيق يناقض التصريح. فالقرار الأسهل لدى كبار العالم هو إشعال صراع هنا أو هناك، والانحياز إلى استخدام لغة القوة للانتقام ممن يسيرون في الاتجاه المعاكس لمصالحهم، واللجوء إلى أساليب التهديد والوعيد للمختلفين معهم سواء من الدول أو الأفراد. الأفعال غالباً ما تتناقض مع الأقوال، والمبررات جاهزة دائماً لإقناع الرأي العام بصحة ما يفعلون، باستثناء طبعاً قادة دول يتخذون من الحكمة والسلام عقيدة لا يحيدون عنها، ويسعون لحل النزاعات بين الدول الشقيقة أو المجاورة أو حتى البعيدة من أجل إنقاذ الإنسان وتحكيم العقل وإحلال السلام بالفعل لا بالقول.

كلما نظرت إلى أحوال الأرض اليوم، تكتشف أن السلام لغة مفقودة في المناطق المشتعلة حول العالم، وكأن الصوت الآتي من الجهات الداعية للسلام على الدوام لا يصل إلى مسامع هؤلاء، بل وكأن الجهود المبذولة هنا وهناك لإخماد نيران الفتن ووقف الحروب والصراعات غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً تصطدم كل مرة بألف حائط وتكافح وتعاني قبل أن تثمر وتتحقق.

تاريخ البشرية مملوء بالصراعات والنزاعات والحروب، شد وجذب بين الدول، شعوب تدفع الثمن كلما تعثرت السياسة ولم يتحلَّ رجالها بالحنكة والحكمة. مرّ العالم بمراحل كثيرة، عرف رجالاً وشخصيات ارتبط اسمها بالسلام وعدم الاستسلام أو الانجراف خلف الحروب، ومازال في العالم من يتحلى بنفس الحكمة ويسعى باستمرار وبلا كلل للتمسك بالسلام حلاً وأسلوب عيش ولغة تحاور وتفاوض مع مختلف الدول.

نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، ربما هذا يساعدنا على كسب جرعات من التفاؤل والأمل بأن الآتي قد يكون مشرقاً. لقد عرف العالم عدداً من قادة ودعاة السلام، منهم من سُجن ومنهم من كافح بالاحتجاج ومنهم من اعتكف، لكنهم جميعاً تسلحوا بالإيمان بقضية واحدة وحق واحد للجميع، السلام.

الذاكرة تضع في مقدمة الأسماء الأكثر شهرة وتداولاً ومازلنا نضرب بهم الأمثال، مالكولم إكس والمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا، ثم الدالاي لاما وسيزار تشافيز وغيرهم.. ولا شك هناك المزيد ممن سلكوا طريق النضال السلمي ورفعوا شعار التفاوض والتحاور من أجل التوصل إلى حلول، إيمانهم كان مطلقاً بأحقية كل البشر دون تمييز بالعيش بأمان في أي بقعة على وجه الأرض. محقون هم، فلو سلك السياسيون طريق الدبلوماسية والتفاوض من أجل فض أي خلاف لما نشبت حروب ولا تشتتت شعوب وقتل أبرياء أياً كانت هويتهم.

ما يعاني منه العالم اليوم لا يقتصر على نزاعات بين دول، بل انقسمت الشعوب وتفرقت وازدادت النعرة العنصرية وصار للتطرف والإرهاب ألف وجه ووجه، ودخلت وسائل الإعلام العالمية في لعبة التحريض واختلاق الأخبار التي تؤجج الفتن وتزيد النيران اشتعالاً، والخبر ينتشر بفضل عصر السرعة والتطور التكنولوجي أسرع من البرق فيتناقله كل الناس وتصدق عليه شخصيات حتى قبل التأكد من صحته.. ناهيك طبعاً عن وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت بدورها وسائل بث حي لأحداث وأخبار ليست كلها حقيقية، بل هناك جيوش إلكترونية تفتعل أحداثاً وتفبركها بتقنيات عالية لتبدو حقيقية، فتشعل حروباً أو تصبّ زيتاً على حروب مشتعلة أصلاً.

الحروب الحقيقية والحروب الافتراضية تضيء سماء العالم فتحط في أكثر من دولة على كوكبنا، فتتداعى باقي الدول للنجدة والتهدئة والمساعدة، لذلك تجد العالم كله مهموماً بأي مصاب يئن منه أي طرف، الكل يشعر بنفس الألم والكل يسعى للعلاج، بل يمكن القول إن دعاة السلام والتهدئة هم أشبه بالأطباء المسرعين إلى غرف العمليات في محاولة لإنقاذ المريض قبل أن يتفشى في بدنه الداء ولا يعود للدواء أي منفعة ولا فائدة؛ والسلام خير علاج ودواء، وخير درس عبر مر الزمان والحقبات، لكن للأسف لا يتعلم منه ولا يتمسك به سوى الأخيار والكبار بالفكر والنوايا والفعل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yj3ztwp3

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"