القلم الرصاص

00:26 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن
نتذكر الأبيات الشعرية العذبة للشاعر بشارة الخوري المعروف ب«الأخطل الصغير»، التي غنتها السيدة فيروز، والقائل مطلعها: «يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا/ كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا»، ولو ذهبنا للمعنى المباشر للمعنى، بعيداً عن المجاز والدلالات، فلنا أن نتخيل أن سطر الهوى الذي خطّه هذا العاشق قد كتب بالقلم الرصاص، فسهل على العاشق محوه، بعد أن راجع نفسه في أمره، فلو أنه كتبه بالحبر السائل مثلاً، ما كان سيمحوه، إنما سيشطبه، بتظليل كلماته بذات الحبر، فيصبح عصياً على القراءة، حين يتحول إلى مستطيل داكن اللون.

إنها ميزة للقلم الرصاص وحده، يكتب ويمحو، خاصة أنه بات شائعاً أن تحمل الحلقة المعدنية في أسفل القلم ممحاة لمحو ما خطّه، كما فعل العاشق صاحب القلب الذي «تمرّس باللذات وهو فتى/ كبرعمٍ لمسته الريح فانفتحا»، كما وصفه «الأخطل الصغير»، لكن التقنية الحديثة فاقت الممحاة في محو ما كتب، فتكفي لمسة ناعمة على مفردة «Delete»، لحذف كل ما كتب، أياً كانت الغاية من الحذف، وما أكثر ما نلاحظ على حساباتنا المختلفة، «الواتس أب» مثلاً، رسائل مسحت قبل أن نقرأها، فنحار في الأمر، أتراها أرسلت إلينا بالخطاً، فيتدارك المرسل الأمر ويلغيها قبل أن تراها أعيننا، أم تراه كتبها في لحظة غضب، وسرعان ما كتم غيظه فمسحها، أو تراه كتبها في لحظة تألق، قبل أن ينتبه إلى أنه بالغ في التعبير عن تألقه؟ و«Delete» هذه يسّرت للكثيرين حذف منشورات أو تغريدات نشروها، مخافة سوء العاقبة، بعد أن فطنوا إلى تبعاتها.

دعونا في القلم الرصاص الذي يزعمون، ولعلّ زعمهم صحيح، أن صنعه على نطاق واسع تمّ في نورمبرج في ألمانيا عام 1662، واستمر ذلك حتى فترة الحروب النابليونية، حيث لم يكن متاحاً الحصول على الأقلام الرصاص في فرنسا، لانقطاع الواردات. والسياسة، كما قلنا غير مرة، لا تترك شيئاً إلا وزجّت حالها فيه، حتى القلم الرصاص. مثلاً رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، وهو يشير إلى خطأ المبالغة في قدرة بلاده على إلحاق هزيمة نكراء بروسيا، قال «فلن تنتهي الحرب بعرض عسكري أوكراني وسط موسكو، وجلّ ما تطمح إليه كييف وضع ردع محدود لمواجهة الحملة الشتوية المتوقعة لروسيا»، وربما لمداراة ما ينطوي عليه قوله من إحباط تساءل: «هل قلم الرصاص قوي أم ضعيف؟ ذلك يعتمد على كيفية نظرتكم إليه»، قاصداً أن أوكرانيا حتى لو بدت ضعيفة كالقلم، فإنها مستمرة في دفاعها، لكنه تفادى قول الباقي: هذا يعتمد على استمرار دعمكم أيها الحلفاء لنا. وحدنا لن نقوى على ذلك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yh769wfz

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"