في المشهد الثقافي الخالي

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ندى أحمد جابر*

النقطة فوق الحاء هنا ليست خطأً مطبعياً؛ بل خطأ الخواء الذي سقطت الثقافة فيه.. خواء إنساني.. وأخلاقي.. وإبداعي. فضاء شاسع الضياع، وحينما نبحث في مفهوم الثقافة الحديثة، نجدها ضائعة في متاهة الألوان، وقد فقدت ذاك البريق الذي كان يشع من أبيضه نور الوضوح، ومن أسوده عمق العلم والمعرفة.

ضاعت المفاهيم في زمن الشاشات الملونة، احتلت الصورة المساحة الأكبر، وقعنا في سطحية التسميات، وفقدنا الإبداع الذي ميّز فترة القرون الأولى التي تلت اختراع المطبعة؛ حيث واكب انتشار القراءة، زمن كان اسمه زمن «النهضة». زمن الفكر المتعطش إلى المعرفة، كانت النهضة بعد غفوة القرون الوسطى، وقد جاء كما اليقظة التي انعكس نورها على كل نواحي الحياة الصناعية والتجارية والسياسية وأهمها الإنسانية.

هكذا بدأت الحياة الثقافية زمنها الجميل مع انتشار الكتب والصحف والتعليم.. وكأن الكون عرف فجراً جديداً عمّت فيه القيم والمبادئ، وشهد القرن الرابع عشر فترة النمو الثقافي الهائل في أوروبا التي انتعشت بعصر إحياء الفن والأدب والفلسفة والعلوم الاستكشافية والدراسات الإنسانية. كان المشهد الثقافي الراقي يتنقل عبر مدن العالم بسرعة تنقل المطبعة وسهولة التعليم وانتشار القراءة. ومع عصر الثقافة الذهبي كانت تزدهر كل مناحي الحياة الصناعية والعمرانية والتجارية؛ وذلك تأكيداً لازدهار القيم الإنسانية. وامتد المشهد صعوداً ليُقدِم للعالم مع نهاية القرن السادس عشر عمالقة الفكر؛ مثل: وليم شكسبير وتوماس مور وغيرهما ممن أثروا المشهد الثقافي بالأفكار الجديدة حول السياسة والأخلاق والقيم.

هذا المشهد الذي تميّز ببروز أسماء ما زالت حتى يومنا هذا منارة يَستلهم منها المستكشفون، مثل نظريات (غاليليو) في علم الفلك، التي جاءت في تحدٍ نموذجي لمركزية الأرض وللكون، ومهدت الطريق لفهم جديد لمكاننا فيه. وفي هذا العصر كانت الاستكشافات الجغرافية تأتي نتيجةً حتمية لانتشار الثقافة والشغف لمزيد من المعرفة.. وكان كولومبوس يبحر ممهداً الطريق لاكتشاف عالم أكبر وآفاق لأراضٍ غير معروفة، ليعم العالم نور العلم الذي سطع فاتحاً عصراً جديداً كان المدخل إلى زمن الاختراعات العلمية التي نعيش اليوم على تطورات إنجازات عُلمائها.

كان المشهد سخياً ثرياً مزدحماً بالخلق والإبداع. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على المجتمع، ليترك تغيرات كثيرة في مفاهيم التعليم وظهور القيم الإنسانية التي ميّزت عصر النهضة. ويلي تلك الفترة المشهد الثقافي لعصر «التنوير» بين (القرن السابع عشر والتاسع عشر) أو ما كان يُسمى بعصر المنطق. وهو حركة فكرية وفلسفية هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبية. هذا المشهد الذي نشر الفلاسفة والعلماء فيه أفكارهم من خلال اللقاءات العلمية في الأكاديميات والصالونات الأدبية والمقاهي، ومن خلال الكتب المطبوعة والصحف والمنشورات.

وفي عصر التنوير انتشر المشهد الثقافي العربي الذي سبق عصر النهضة؛ إذ كان متألقاً في (القرن الثاني عشر) يوم كانت أوروبا تغط في ظلامها الدامس، كان عصر الثقافة العربية يسبقها ولم يكتشف العالم نظريات العلماء العرب؛ مثل: ابن سينا إلا مع انتشار الكتب في عصر «التنوير»؛ حيث بدأ الغرب بدراسة أفكار الإغريق وتحليلها وتطويرها من خلال مؤلفات ابن رشد الذي حفظ وترجم نظريات أرسطو وتناولها بإسهاب وتحليل، ومن خلال العالم ابن خلدون الذي يُعد المؤسس الأول لعلم الاجتماع.. والقائمة تطول.

وعن هذا العصر قال إيمانويل كانت: «إنه خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج». وهو يعني أيضاً الخروج من التبعية إلى الاستقلال الفكري، والاعتماد على النفس في التحليل والدراسة والتعليق.

هذه هي الثقافة وهي ترتقي وترسم أجمل المشاهد العالمية.. أما اليوم في عصر «القفزة» الفضائية.. فالمشهد الخالي يكاد لا يسمع فيه سوى الصدى الفارغ، وتغلب عليه التفاهة، لدرجة أن الثقافة صارت لها حدود تضعها كمقياس واحد؛ هو أعداد المشاهدات (من دون النظر إلى النوعية). الأعداد تحدد الناجحين في البرامج التلفزيونية والإنترنت، وهي في معظمها خالية من أي مضمون ثقافي. وتسهم في نشر التشويش والتسلية السطحية بدل التركيز على المحتوى الذي يغذي العقل، ويثري المعرفة. ضاعت التسميات مثل ترميز التافهين أي تحويلهم إلى رموز ونجوم ومشاهير في الشاشات التلفزيونية والسوشيال ميديا، وهم لا يملكون أي موهبة ويحملون ألقاب خبراء ومتخصصين ومؤثرين.. هذا ما أطلق عليه الكاتب الكندي الآن دونو اسم ثقافة التافهين..

وفي هذا المشهد الفارغ قال في كتابه «نظام التفاهة»: هو الزمن الذي يُحاصر فيه التافهون المشهد فيغدو فارغاً إلا من صور ملونة لا تثري الفكر ولا تُحفز الإبداع؛ بل هو مشهد السيطرة والتكبر، وتدهور التفكير في متاهة الصحراء الخالية حتى من القيم الإنسانية..

هذه هي حقيقة المشهد الثقافي الحالي، لا عجب إن لم يتحرك حتى أمام المجازر الدامية.. فهو الخالي.

*كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3tyw2t3x

عن الكاتب

كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"