الفاشية المتأخرة

العِرق والرأسمالية وسياسة الأزمة
00:02 صباحا
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 8 دقائق
ظهور النازية الجديدة في ألمانيا
ظهور النازية الجديدة في ألمانيا

عن المؤلف

الصورة
ألبرتو توسكانو
ألبرتو توسكانو
ألبرتو توسكانو أستاذ النظرية النقدية في قسم علم الاجتماع والمدير المشارك لمركز الفلسفة والنظرية النقدية في غولدسميث (جامعة لندن)، وأستاذ مشارك في أبحاث المصطلحات في كلية الاتصالات في جامعة سيمون فريزر. له عدد من المؤلفات.

في عالم يعاني الاضطرابات البيئية والاقتصادية والسياسية، استحوذت عودة القوى الاستبدادية والرجعية على وعينا الجماعي. كيف نتعامل مع عودة الفاشية في هذا المشهد العالمي المعقد والمشحون؟ يقدم هذا العمل دراسة عميقة ونقدية للمناخ السياسي الحالي، وارتباطاته بظاهرة الفاشية في سياقها التاريخي.

 في مواجهة انتشار وتوطيد وهيمنة الحركات السياسية والأنظمة والعقليات اليمينية المتطرفة، في جميع أنحاء العالم، أصبح يطلق على العديد من اليساريين والليبراليين، وحتى بعض المحافظين، بالفاشيين. لقد أصبح هذا المصطلح الآن يُتداول بسهولة، رغم أنه كان على وشك الاختفاء، خاصة في الولايات المتحدة، ولكن ظهوره من جديد يمثل تحدياً ملحّاً، يتمثل في تشخيص الأعراض المرضية التي يتميز بها حاضرنا. يقول المؤلف: «يصف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الداعمين الجمهوريين لسلفه بأنهم «شبه فاشيين». وهاجم نظيره البرازيلي الغوغاء المؤيدين لبولسونارو الذين غزوا الكونغرس في البرازيل في 8 يناير/ كانون الثاني 2022، ووصفهم ب«المخربين والفاشيين». وعمدة تل أبيب يحذّر من أن إسرائيل تنزلق إلى «دولة دينية فاشية»؛ ويُعد تشريع المواطنة الهندوسي العنصري الذي أقره مودي وليد «رؤية فاشية»؛ في حين ينظر كثيرون إلى غزو روسيا لأوكرانيا، والذي تم تصويره بشكل مضلل على أنه جهد «لإزالة النازية»، على أنه علامة على نظام استبدادي متزايد».

هذا الكتاب هو محاولة للمساهمة في مناقشة جماعية حول الدورة السياسية الرجعية. ولكتابته، لجأ الكاتب إلى الأرشيف الذي ألفته نظريات الفاشية التي تم إنتاجها في القرن الماضي، لاختبار قدرتها على تسليط الضوء على زمننا الراهن. ويتساءل: «هل من المفيد وصف وجوه الرجعية بأنها «فاشية»؟ ما هي العلاقة بين تنظير، أو تسمية الفاشية والاستراتيجيات المناهضة للفاشية؟». ويعلق على ذلك قائلاً: «إن إجاباتي عن هذه الأسئلة تعتمد، بشكل كبير، على المناقشات التي تعرضت للانتقادات في السبعينات حول «الفاشية الجديدة»، التي أنا مقتنع - على الرغم من الجدل المثار - بأنها تظل أكثر إفادة في لحظتنا من مداولات الأممية الشيوعية، أو خطابات الحرب الباردة عن الشمولية».

هتلر وموسوليني
هتلر وموسوليني

الفاشية والقياس التاريخي

إن ما يقدّمه المؤلف في هذا العمل هو نوع من التعليق الوصفي على الفاشية في عصرنا، إذ يرى أن «الإغراء الأساسي لأي فكر معاصر حول الفاشية هو المقياس التاريخي. وفي مواجهة هذا المزيج السام من الأزمات الاجتماعية والعنف السياسي والأيديولوجية الاستبدادية، فإن رد الفعل المنطقي هو تحديد أوجه التشابه بين حاضرنا والكارثة الأوروبية، في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، لمنع تكرارها (عادة عن طريق إعادة إحياء الليبرالية باعتبارها الحل الأمثل)، (الترياق الوحيد لعدم الليبرالية). إن الفاشية هي في واقع الأمر مسألة ظهور واختفاء، ولكن ليس من الأفضل التعامل معها من حيث الخطوات وقوائم المراجعة التي تمليها قراءة انتقائية للفاشية الإيطالية، أو فاشية الرايخ الثالث. وبدلاً من التعامل مع الفاشية، كحدث فردي، أو ربطها بتشكيلة معينة من الأحزاب والأنظمة والأيديولوجيات الأوروبية، لأغراض التفكير في يومنا هذا وضدها، نحتاج إلى «رؤية الفاشية ضمن مجمل سياقها العام». وهذا يستلزم أيضاً الاقتراب من الفاشية على المدى الطويل، وفهمها كديناميكية تسبق تسميتها. وهذا يعني فهم الفاشية باعتبارها مرتبطة بشكل وثيق بمتطلبات الهيمنة الرأسمالية، والتي، على الرغم من أنها قابلة للتغيير ومتناقضة في بعض الأحيان، لديها اتساق معين في جوهرها».

يشير كتاب «الفاشية المتأخرة» إلى حقيقة أن الفاشية، مثل الظواهر السياسية الأخرى، تختلف وفقاً لسياقها الاجتماعي والاقتصادي. ويعلق الكاتب على ذلك: «ربما يكون الأمر الأكثر استفزازاً هو أنها تسلط الضوء على كيفية ارتباط الإصلاحات الفاشية «الكلاسيكية» بشكل وثيق بالأزمات الرأسمالية في عصرها، وهي أيضاً مرتبطة بعصر العمل اليدوي الجماعي، والتجنيد الشامل للذكور للحرب الشاملة، والمشاريع الإمبريالية العنصرية، (الخارجة عن نطاق السيطرة). ومن المفارقات أن العديد من المثقفين والمحرضين الذين يميلون نحو الفاشية اليوم، هم في الواقع منغمسون، بعمق، في أوهام الحداثة البيضاء والصناعية في فترة ما بعد الفاشية وما بعد الحرب. إن الاعتراف بمفارقة الفاشية أمر لا يبعث على الارتياح، خاصة عندما تكون الحلول الليبرالية والنيوليبرالية لأزمات الكوكب - وخاصة تغيّر المناخ الكارثي الناتج عن النشاط البشري - متأخرة وغير كافية إلى حد إجرامي، ما يترك مجالاً كبيراً للمناورة لليمين المتطرف، القادر على إعادة اختراع أوهامه»، ويرى أن «النضال غير الانعكاسي ضد الفاشية ينطوي على خطر أن يصبح متصلباً، أو منغمساً في نفسه، أو متواطئاً مع العمليات ذاتها التي تؤسس الرجعية، حيث إن الشر الأصغر يمد يد المساعدة للشر الأكبر».

1

تشابك الفاشية مع الهيمنة الرأسمالية

لا يقبل المؤلف ألبرتو توسكانو، بالقياسات التاريخية السهلة عند مواجهة تحديات عصرنا. وبدلاً من ذلك، يشجع القرّاء على اعتبار الفاشية مشكلة وعملية، تتشابك بشكل معقد مع متطلبات الرأسمالية للهيمنة. ويعتمد المؤلف على نظريات السود الراديكالية والمناهضة للاستعمار وللفاشية العنصرية، ليؤكد أهمية فهم الفاشية خارج سياق الأنظمة الأوروبية السابقة. ويعتبر ذلك دعوة للعمل من أجل تطوير نظرية قوية مناهضة للفاشية، خاصة في مواجهة الحركات اليمينية المتطرفة الحديثة التي تعمل على تأجيج نيران الخوف والاستياء مما يتعلق بالأعراف السياسية والجنسية والعنصرية التقليدية.

ويستكشف المؤلف الاتجاهات الفاشية في سياقات سياسية عالمية مختلفة، من الولايات المتحدة إلى البرازيل وإسرائيل والهند وروسيا، ويسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى معالجة الحركات اليمينية المتطرفة الصاعدة. ويرى أن مصطلح «الفاشي» يستخدم بوتيرة متزايدة، الأمر الذي يعكس الحاجة المتزايدة إلى تشخيص الأعراض المزعجة التي يعانيها حاضرنا. ويساهم هذا الكتاب في تناول الخطاب المستمر حول الدورة السياسية الرجعية من خلال الخوض في نظريات الفاشية من القرن السابق.

ويتحدى كتاب توسكانو الرغبة التبسيطية في إيجاد أوجه تشابه تاريخية مع الفاشية، ويقترح بدلاً من ذلك أننا يجب أن ننظر إلى الفاشية كعملية مستمرة، متشابكة بعمق مع العناصر الأساسية للهيمنة الرأسمالية. ويجد أنه مفهومه يسبق تسميته الرسمية، وله صلات أساسية بما أسماه دبليو إي بي دو بوا، «الثورة المضادة للملكية».

ويبيّن هذا الكتاب، الصادر عن دار فيرسو للنشر باللغة الإنجليزية في 224 صفحة، أن الفاشية، مثل الظواهر السياسية الأخرى، تتطور وفقاً لبيئتها الاجتماعية والاقتصادية. تدفعنا هذه الفكرة إلى النظر في كيف أن الأيديولوجيات الفاشية الكلاسيكية المتجذرة في حقبة ماضوية من العمل اليدوي والمشاريع الإمبريالية، أصبحت غير متزامنة بشكل متزايد مع عالمنا الحديث. والأهم من ذلك، أن عمل توسكانو يلفت الانتباه إلى مخاطر الموقف غير المدروس، وغير المرن المناهض للفاشية، والذي قد يساهم، عن غير قصد، في القوى الرجعية ذاتها التي يسعى إلى مكافحتها.

 يرى المؤلف أنه «في عصر حيث اليمين المتطرف ماهر في إعادة تصور أوهام الهيمنة بطرق ضارة، يتعين علينا أن نعمل على تطوير استجابات دقيقة وفعّالة تتجاوز النماذج التي عفا عليها الزمن»، ويضيف: «إن الفاشية، التي تتسم بالهوية الشرسة وغير الاعتذارية، من الصعوبة بمكان تصنيفها. فهي تتغذى على التكرار، ولكن مع اختلافات، وتبحث في المشهد الأيديولوجي عن مواد قابلة للتكيف، وفي بعض الأحيان تستمد الإلهام من خصومها الأيديولوجيين في اليسار. فهي تتمتع بالجرأة على التباهي بالنسبية، بينما تتاجر بالمطلقات. وعلى الرغم من ارتباطها التاريخي بمنطق الدولة الشمولي المفرط خلال الحرب الباردة، فإنها تؤدي إلى ظهور أشكال خاصة بها من التعددية، وتتصور مفاهيمها الخاصة عن الحرية. لقد كان رأيي دائماً هو أنه يمكننا الانخراط في مناقشات مقنعة حول الفاشية، باعتبارها سياسة أزمة مناهضة للتحرر من دون الوقوع في فخ تبسيطها بنظرية، أو تعريف سهل.

مؤتمر النازية في ميونيخ عام 1983
مؤتمر النازية في ميونيخ عام 1983

أبعاد مترابطة في التجربة الفاشية

يوضح المؤلف أن النظرية النقدية للفاشية لا تحتاج إلى أن تشبه الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات السياسية. ويقول عن ذلك: «يمكن للمنظرين المتطرفين الذين أثّروا في أفكاري حول الفاشية العنصرية والاستعمارية، وكذلك انتقاداتي للقياسات التاريخية، أن يرشدونا عبر أربعة أبعاد مترابطة لتاريخ الفاشية وتجربتها:

يسلط البعد الأول الضوء على أن الممارسات والأيديولوجيات التي بلغت ذروتها في الفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية، ونظيراتها الأوروبية، قد سبقها وسهّلها تجريد السكان المهمشين من ممتلكاتهم واستغلالهم من خلال الاستعمار الاستيطاني، والعبودية، والرأسمالية العنصرية داخل أوروبا. وأعتقد اعتقاداً راسخاً بأن فهم فاشيتنا «المتأخرة» يتطلب الاعتراف ب«الفاشيات قبل الفاشية»، التي ظهرت إلى جانب الترسيخ الإمبريالي للنظام العالمي الرأسمالي.

ويؤكد البعد الثاني، أن الفاشية قد تمت تجربتها وتطبيقها، ووسمها بالاختلاف بشكل كامل على محاور العَرق والجنس. وكما كشف الثوار الملونون المسجونون في الولايات المتحدة، فإن الأنظمة السياسية التي غالباً ما تُعتبر ديمقراطية ليبرالية، يمكن أن تؤوي مؤسسات تعمل كأنظمة هيمنة وإرهاب لأجزاء كبيرة من سكانها، ما يخلق شيئاً أقرب إلى الدولة المزدوجة العنصرية. وهذا يعني أن الأصول السياسية والضرورات الاستراتيجية لإلغاء عقوبة الإعدام ومعاداة الفاشية المعاصرة مرتبطة بشكل معقد.

أما البعد الثالث فيركز على اعتماد الفاشية على العنف المضاد الوقائي، وتطلعها إلى نهضة عرقية، أو انتقام مدفوع بالخطر الوشيك، المتمثل في تهديد حضاري وديموغرافي ووجودي. لقد تحول الذعر بشأن «موجة اللون المتصاعدة»، و«الثورة العالمية الملونة» التي غذّت صعود الفاشية بعد الحرب العالمية الأولى، ولو بشكل خفي، إلى خطابات الاستبدال، أو الانتحار الثقافي التي يتقاسمها مطلقو النيران بشكل عشوائي وجماعي، والزعماء الأوروبيون، على حد سواء.

ويؤكد البعد الرابع أن الفاشية تستلزم تنمية الهويات والذاتيات والرغبات وأساليب الحياة التي تتطلب، ليس الطاعة لسلطة الدولة الاستبدادية فقط، ولكن أيضاً مفهوماً فريداً للحرية؛ فالفاشي، باعتباره يشكل اندماج المستوطن والجندي (أو ضابط الشرطة)، يتصور نفسه مشاركاً نشطاً في احتكار العنف، وصاحب سيادة صغيرة، ضمن سياق ارتباطات عاطفية وأيديولوجية مرتبطة بالسلطة.

ومع وضع هذه الأبعاد في الاعتبار، يمكننا أن نبدأ بفهم كيف تتقارب وتتجمع الإمكانات الفاشية المعاصرة في ما يمكن أن نطلق عليه «الفاشية الحدودية». وسواء كانت هذه الحدود حدوداً مادية يجب تحصينها وحراستها، أو شبكة معقدة من خطوط الصدع التي تتدفق عبر الجسم السياسي، ويتم تحديدها ومراقبتها بطرق مختلفة، فلا يمكن إنكار أن اليمين المتطرف سوف يرسم خريطة لسياساته الزمنية، خاصة هوسه بالسياسة، وسوف يسعى أيضاً، كما فعل أسلافه في القرن العشرين، إلى السيطرة على حدود الجسد، ومراقبة الانقسامات بين الجنسين.

 يقول المؤلف إن الفاشية «تهدف بقوة إلى تكريس اللامساواة في ظل ظروف الأزمة من خلال خلق واجهات من المساواة لمجموعات منتقاة. إنها حركة سياسية وثقافية ترتكز على الترسيخ الوطني والاجتماعي، تغذيها العنصرية، في خضم كارثة مجتمعية، فعلية أو متوقعة. وباعتبارها سياسة أزمة، تمثل الفاشية حالة متطرفة من «الرأسمالية التي تنقذ الرأسمالية من الرأسمالية»، وفي بعض الأحيان تخلق وهم الرأسمالية من دون رأسمالية. إن المعالجة الفعالة لاحتمالات الفاشية وعملياتها في عالمنا المعاصر لا ينبغي أن تنطوي على التنازل عن النقد للرأسمالية لمصلحة التحالفات الفاترة مع الليبراليين أو المحافظين. وتتميز النيوليبرالية «التقدمية»، التي غالباً ما تكون مختبئة تحت الإدانات السائدة للفاشية، بإدامة اللامساواة والاستبعاد، والتي يتم تمويهها أحياناً بالتزامات شكلية بالحقوق والتنوع والاختلاف. ويتعين على أولئك الذين ينحازون إليها أن يدركوا أنهم في الواقع «يحرسون البوابات الإمبراطورية»، ويتحالفون مع القضية ذاتها التي يهدفون إلى إحباطها. وينبغي لأي شخص غير راغب في الانخراط في المناقشات حول مناهضة الرأسمالية، أن يمتنع، بالمثل، عن المناقشات حول مناهضة الفاشية.

يمكننا القول في الختام، أن هذا الكتاب مناسب في توقيت نشره مع عودة ظهور الأيديولوجيات الفاشية في عالمنا المعاصر، وهو إضافة مهمة للمناقشات الجارية عن الاستبداد والرأسمالية، والحاجة الملحّة إلى نظريات قوية مناهضة للفاشية؛ ويدعو القراء إلى مواجهة مفارقة الفاشية الكلاسيكية وإعادة التفكير في استراتيجيات جديدة لمعالجة التحديات المعاصرة المتعددة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم
https://tinyurl.com/4ryade8h

كتب مشابهة

1
أفشون أوستوفار
1
هربرت ريموند مكماستر
1
جوزيبي بلاشي وروب غودمان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

1
بيل أوريلي ومارتن دوجارد
1
أديوالي ماجا بيرس
1
مايكل كايدنغ، ويوهانس بولاك، وبول شميت
1
صموئيل ج. هيرست
1
نايكي جي. بي. ألسفورد