جيمس برادفورد ديلونغ *
أظهرت محاكمة «غوغل» بموجب قانون مكافحة الاحتكار أخيراً مدى استعداد محرك البحث المهيمن على مستوى العالم، وقدرته على دفع الأموال ليستمر الخيار الافتراضي الأول على الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى. مع معدل إنفاق بلغ 26 مليار دولار في عام 2021 وحده، منها 18 مليار دولار ذهبت إلى خزانة عملاق التكنولوجيا الآخر «أبل».
وبينما حاولت الشركة منذ فترة طويلة طمس معالم هذا الرقم، لكنه من المعروف دائماً أنه كان ولا يزال كبيراً، وهذا هو الحال. فما هو المقابل الذي تدفع «غوغل» لأجله هذه الأرقام؟
عند البدء بضبط إعدادات جهاز «آيفون» جديد، من المفترض أن تطالبك الشركة المصنعة «أبل» بتحديد محرك البحث الذي تريد استخدامه ليكون هو الافتراضي في متصفح «الويب سفاري» الخاص بها. لكنها ببساطة لا تفعل ذلك؛ بل تختار لك «غوغل» تلقائياً. وبالطبع، يمكن للمرء الانتقال إلى الإعدادات وتغيير الإعداد الافتراضي ببضع نقرات على الشاشة.
وهنا تشمل الخيارات الأخرى «ياهو» و«بينغ» و«دك دك غو» و«إكوسيا»، لكن في الغالب لن يزعج أحد نفسه بذلك إلى حد كبير. وهذا هو السبب الذي تقوم لأجله «غوغل» بتحويل مليارات الدولارات إلى شركة «أبل» كل عام، فهي تستهدف الاستحواذ على معظم تدفقات عوائد الإعلانات على محرك البحث، وضرب أي منافس آخر.
وهناك عدة مواقف يمكن للمرء اتخاذها حيال هذا الملف. فعلى سبيل المثال، يمكن القول إن عملاق البحث عبر الإنترنت هو المذنب، لممارسة سلطته التنفيذية والمالية الفائقة لأغراض احتكارية غير مشروعة. ويمكنك إلقاء اللوم كذلك على «أبل»، ففي نهاية المطاف، بدلاً من مطالبتها المستخدمين بالاختيار، تمنح ميزة غير عادلة مقابل رسوم باهظة.
وفي المقابل، قد يكون «غوغل» هو الضحية حقاً. فبما أنه يعد رقم واحد على مستوى الانتشار عالمياً من بين محركات البحث، فمن البديهي للشركات الراغبة في تعظيم القيمة لعملائها أن تختاره بطبيعة حال. وهنا استغلت «أبل» ذلك خير استغلال، وعوضاً عن جعل «غوغل» الوضع الافتراضي مجاناً، عملت على ابتزازه من خلال التهديد بتغير هذا الوضع وبيعه لمن يدفع أكثر. بالتالي، يمكن القول إن «أبل» تستفيد من قوة المشتري الوحيد لتقييد التجارة وتشويه المنافسة.
أو يمكن اعتبار الحاصل مجرد عمل معتاد في «اقتصاد الاهتمام» أو «الانتباه». فمن خلال القيام باستثمارات هائلة وإظهار إبداع وبراعة لا مثيل لهما، برزت «أبل» بوصفها المورد الرئيسي لسلاسل قيمة الأجهزة والبرامج. وبفضل جهودها، أصبح لدينا الآن نظام تشغيل «آي أو إس»، الذي زودنا بإمكانية وصول قيّمة للغاية إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات والترفيه.
فلا ينبغي لنا أن نكافئ مثل هذا الإبداع مالياً فحسب؛ فمثل هذه المكافآت ينبغي أن تخدم غرضاً أكبر، من خلال تحفيز المبدعين الآخرين الحاليين والمستقبليين على خلق منتجات وخدمات مفيدة حقاً، بدلاً من ملاحقة أنشطة ضارة اجتماعياً مثل هبات العملات المشفرة. و«آيفون» هو أحد تلك المنتجات التي تبيعها «أبل»، ولكنها تبيع في المقابل تركيز مستخدمي الجهاز وتحول انتباههم إلى شركات مستعدة لدفع ثمن ذلك. فلماذا لا تتقاضى ما تريد مقابل هذه الخدمة؟
وأخيراً، يمكن للمرء أن يدعو إلى مطالبة المستخدمين بالاختيار، من أجل ضمان تكافؤ الفرص بين محركات البحث. فإذا كان لدى «غوغل» أفضل محرك بحث، فقد ينتهي بها الأمر إلى الحصول على حصة تبلغ 60%، في حين يحصل كل محرك من المحركات الأربعة الأخرى على 10%. ولكن ماذا لو اختار المستخدمون الذين ليسوا على اطلاع كامل، أو لا يهتمون حقاً، خدمة رديئة عن غير قصد؟ سوف تتدهور تجربة المستخدم الشاملة في العالم الحقيقي لصالح «ساحة لعب متكافئة مجردة!».
ومن الممكن تقديم حجج مقنعة لكل من هذه المواقف، وقد تم بالفعل دفع مبالغ كبيرة من المال للمحامين وخبراء الاقتصاد لصقل هذه الحجج وتقديم الأدلة الداعمة. وعندما يتعلق الأمر بتحديد الرأي الأكثر إخلاصاً للحقائق أو مقنعاً منطقياً، ستجد الشيطان يكمن في التفاصيل.
نستنتج مما سبق أن هذه القضية معقدة للغاية، فنحن لا ندري كيف يعمل الاهتمام البشري بالضبط؟ والأهم، من ذلك يجب أن يكون له الحق في جذبه أو توجيهه من أجل البيانات؟
في أوائل العصر الحديث، كان للنبلاء الحق في التحكم بالأقنان، أي المزارعين المقيدين بالنظام الإقطاعي، وجني الثروات الناتجة عن عملهم في الحقول.
وعندما يحاول الأقنان الهرب، يطاردهم الفرسان ويعيدونهم مقابل رسوم رمزية. اليوم، لن يكون مستغرباً رؤية بعضهم يشيرون إلى زمننا الحالي على أنه عصر بزوغ فجر «الإقطاع التكنولوجي».
ومع ذلك، لا يبدو لي المصطلح صحيحاً، وأنا أخشى أن يقودنا هذا إلى تبني قياسات خاطئة في محاولة فهم الكيفية التي يعمل بها اقتصاد الاهتمام بالمعلومات على وجه التحديد.
مشكلتي هي أنني لا أستطيع التفكير في استعارة أفضل. وربما يكون ابتكار واحدة منها بمثابة الخطوة الأولى نحو التقييم الدقيق للعالم الذي أنشأناه.
* باحث وأستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا،
ونائب مساعد وزير الخزانة الأمريكية الأسبق «بروجيكت سنديكيت»