في حدود الأيديولوجيا وضرورتها

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

تبدو كالدواء، غير مستحبّة، لكنها ضرورية، خصوصاً عندما يصبح نقد الأيديولوجيا انتقائياً، ويكون رفضها محاولة لإبعاد أيديولوجيا معينة من السوق الأيديولوجي، وليس كل الأيديولوجيات، وهو ما حصل ويستمر على يد الفكر المنتصر في القرن العشرين، أي الفكر الليبرالي الغربي، الذي فرّخ أيديولوجيات عديدة، تستند إلى المرجعيات ذاتها، لكنها تختلف في بناء تصوراتها، وأحياناً يكون الخلاف أقرب إلى التناقض الجذري.

بشرتنا العولمة، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي بنهاية الأيديولوجيا الوطنية، وقد ملأت تنظيرات هذا الاتجاه المنصات الأكاديمية والسياسية والإعلامية، وراح كثيرون من منظري العولمة يتحدثون عن ظهور المواطن العالمي، مع بزوغ عصر ما فوق القوميات، وما فوق الحدود، بالاستناد إلى الأثر المباشر والعميق لثورتي التقانة والاتصالات، ليس فقط في مجال الانتقال الحر للأموال والأفراد؛ بل في مجال صياغة شكل معولم من الثقافة والقيم. وإذا كانت الأيديولوجيا تصوّراً ذهنياً في مقاربة للذات والموضوع، فيه جانب إرادي ورغبوي، فإن المعرفة هي حدودها، ويقصد بها المعرفة العلمية من جهة، والمعرفة المنهجية المطابقة للواقع كما هو، من دون شطح من فوقه، لكن المعرفة بوصفها حداً، أي أن تكون حداً على الأيديولوجيا، فذلك لكون المعرفة ابنة المفاهيم، والتي هي على الدوام نسبية، وخاضعة للاتفاق البشري عليها، وأيضاً قابلة للنقد، لذلك، يبدو أن بعض التبشير العولمي بنهاية الأيديولوجيا، والذي قام في جزء منه، بوضع المعرفة كنقيض للأيديولوجيا، قد وقع في مطب تجاوز ما هو ذهني وإرادي ورغبوي، إلى ما هو نسبي، ومحل عدم اتفاق، خصوصاً في المجال التطبيقي للمفاهيم، أي حقل السياسة. هل يمكن أن يكون العالم، بوصفه حقلاً للإنتاج المادي، مستغنياً عن الأيديولوجيا؟

هذا السؤال الذي ينتمي في شقّ منه إلى عالم التجريد الذهني، ينتمي في شقّه الواقعي إلى فضاء ممارسة الإنتاج، الذي تشكّل الدولة قوامه المباشر؛ إذ ليس ثمة إنتاج خارج منظومة الدول، وخارج إطار حدودها وقوانينها، وقبل كل شيء خارج تصوّرها لمكانتها، وهذه المكانة ليست موجودة بمعزل عن الأيديولوجيا، فالدول من دون تصوّر أيديولوجي تصبح عبارة عن جهاز مؤسسي/ ضريبي، وهذه الأيديولوجيا بالضبط هي أحد تعريفات الدولة لوجودها وذاتها، أمام نفسها وأمام الآخرين.

لمسنا خلال السنوات الماضية ما يشبه نهاية التبشير بقدوم عصر عولمي ما فوق قومي، فقد أطلق الرئيس السابق دونالد ترامب حملته الرئاسية في عام 2016 تحت عنوان «أمريكا أولاً»، وهو عنوان أيديولوجي قومي من العيار الثقيل، مضاد تماماً لروح الانفتاح العولمية.

في عالمنا العربي، المحاصر بدول إقليمية أيديولوجية، دينية وقومية، تبدو السياسات العربية الراهنة متخففة سلباً من الأيديولوجيا، وهي بذلك، تنحو إلى البراغماتية، أكثر من كونها تعبيرات عن تصور للدور والمكانة، في الوقت الذي تبدو فيه معظم الدول الكبرى عالمياً أو إقليمياً لديها منظومة أيديولوجية.

ليست الأيديولوجيا منظومة صمّاء، أو لا يفترض بها أن تكون كذلك، وبالتالي فإذا كان النقد المعرفي هو أحد حدودها، فإن مواءمتها للمصالح الاستراتيجية هو حدها الآخر، لكن غيابها عن دولة ما، يجعل من وجود الدولة ذاته مجرّد وظيفة لا أكثر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4shs3ddx

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"