التنافس على الأدمغة

21:51 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

في الماضي القريب (ستينات وسبعينات القرن الماضي)، تنافست البلدان على استقطاب رؤوس الأموال لتصب في أنظمتها المصرفية، وظهرت في البلدان النامية مراكز مالية مكرسة لهذا الغرض، تنافس المراكز المالية العالمية الكبرى في الدول المتقدمة، مثل لندن ونيويورك والمدن السويسرية، ولوكسمبورغ وليختنشتاين؛ وكان – ومازال – أبرز تلك المراكز المالية الناشئة، سنغافورة، والمستعمرة البريطانية السابقة هونغ كونغ، وبنما، وبوسان (ثاني أكبر مدينة في كوريا الجنوبية بعد العاصمة سيؤول)، والمستعمرة البريطانية ذات الحكم الذاتي في غرب الكاريبي كيمان آيلاند، وبربادوس في الكاريبي، وبرمودا (مستعمرة بريطانية في شمال المحيط الأطلسي غير بعيدة عن ولاية كارولينا الشمالية (تبعد عنها 1035 كيلومتراً)، وجزر البهاما في المحيط الأطلسي، وترينداد وتوباغو في الكاريبي، وكوالا لامبور، ودبي، والبحرين، وموريشيوس، وشنغهاي، وجبل طارق، وغيرها.. ونشأت في خضم توالد المراكز المالية في البلدان النامية، ظاهرة ما يسمى «الجنات الضريبية» (Tax havens) التي تؤمِّن لأصحاب رؤوس الأموال وأثرياء العالم امتيازات ضريبية إلى جانب السرية المصرفية، ما وفر ملاذات آمنة للعديد من القطاعات والأنشطة الاقتصادية والأوساط المالية، وسهّل حركتها وعملياتها المصرفية عبر العالم بتكلفة منخفضة وبفوائد مصرفية مغرية (مقارنة بمعدلات الفائدة المصرفية السائدة في المراكز المالية الأولى).

ومثلما تنافست الدول في السابق على استقطاب رؤوس الأموال، ها هي اليوم، (خصوصاً في أعقاب الآثار المنظورة والأخرى غير المنظورة التي خلفتها جائحة كورونا على الاقتصادات العالمية)، تتنافس على استقطاب، هذه المرة، أصحاب الرساميل أنفسهم، كحائزي أموال وكموارد بشرية، أي أصحاب رؤوس الأموال العينية أي حائزي العلم والمعرفة من ذوي الكفاءات والاختصاصات المتميزة. وتتزايد أعداد الدول الملتحقة اليوم بركب الدول التي سبقتها في العمل على جذب الأفراد ذوي الاختصاصات العلمية والمهنية المتميزة، والمهنيين ذوي المهارات العالية، في سعيها للتغلب على الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي خلفتها الجائحة، والفجوة بين العرض والطلب المحليين على هذه الاختصاصات، ومؤخراً التداعيات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للنزاعات الجيوسياسية العالمية، الساخنة والباردة، التي اندلعت في أعقابها في أكثر من منطقة.

لسنوات طويلة، ظلت البلدان المتقدمة، تستغل فارق مستوى الرفاه الاجتماعي الذي تنعم به بفضل سنوات من الغرف من الثروات الطبيعية ومواد الخام ومخرجات الزراعة، إبان استعمارها لكافة بلدان العالم النامي في آسيا وإفريقيا وبلدان الكاريبي والمحيطين الهادئ والأطلسي، مقارنة مع الدول النامية المستعمَرة، لإغراء النوابغ وأصحاب المواهب المتميزين من بلدان العالم النامي، واستقطابهم للزج بهم في دواليبها الاقتصادية كمكونات نوعية في قوة عملها النشطة اقتصادياً في أسواق عملها، وقوة تحفيزية لإنتاجية العمل في اقتصاداتها (عدد الوحدات الإنتاجية المنتَجة في وحدة زمنية محددة)، وقوة دفع تثويرية لمعدلات نمو إجمالي نواتجها المحلية. وقد خلع اقتصاديو العالم الثالث، على هذه الظاهرة، مصطلح «نزف الأدمغة» «Brain Drain»، لتوصيف حالة مغادرة العلماء والاختصاصيين والفنيين لبلدانهم النامية باتجاه بلدان الغرب الرأسمالي، لأسباب مختلفة، بعضها اقتصادي وبعضها الآخر علمي يتعلق بحدود فرص تطوير البحث العلمي وإدخاله في الإنتاج، وبعضها الآخر سياسي يتعلق بضيق مساحة التعبير عن الذات وإمكاناتها.

لكن بعض الأوساط الأكاديمية والإعلامية في الغرب، تفضل التخفيف من خطورة هذه الظاهرة على سياقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية، لتفادي إيحاءات الاستيلاء غير المباشر على الموارد البشرية بالعالم الثالث بعد سنوات من نهب خاماتها وثرواتها الطبيعية إبان استعمارها. فتسميها «هجرة العقول بحثاً عن مستوى معيشي أفضل ونوعية حياة أجود، ومداخيل أعلى، وسهولة الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة والتمتع بظروف سياسية أكثر استقراراً». كما هي الحال بالنسبة للهجرة التاريخية للعلماء والمهندسين الهنود إلى المملكة المتحدة، على سبيل المثال.

في عام 2000، كان ما يقرب من 175 مليون شخص، أو 2.9% من سكان العالم، يعيشون خارج بلدانهم الأصلية لأكثر من عام. من بين هؤلاء، كان حوالي 65 مليوناً من الناشطين اقتصادياً، لاسيما منهم الاختصاصيون في الحقل الصحي، من أطباء وممرضين. وبحسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية نُشرت في سبعينات القرن الماضي، وشملت 40 دولة توجه إليها هؤلاء المهاجرون النوعيّون، فقد توجه نحو 90% من جميع الأطباء إلى خمس دول فقط هي: أستراليا، وكندا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية. وقد عكست وجهتم الروابط الاستعمارية واللغوية، فكان أن هيمن القادمون من الهند وباكستان وسريلانكا على معظم أولئك المهاجرين. لما كان ذلك، فإن دولة نزف الأدمغة لا تخسر في هذه الحالة استثمارها في تعليم المهنيين الصحيين فحسب، بل تخسر أيضاً مساهمة هؤلاء العاملين في الرعاية الصحية. فالهند، على سبيل المثال، تخصص 3% من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق على الرعاية الصحية.

*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5kz9jrw7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"