نبوءات غير مسبوقة

21:53 مساء
قراءة 4 دقائق

ستيفن س. روتش*

عملت في مجال التنبّؤ لأكثر من 50 عاماً، رأيت خلالها إصراراً مستمراً على تصور أن العالم «لا يمر بتغيرات غير مسبوقة». وكثيراً ما أدى هذا المجاز الشائع إلى نتائج مبالغ فيها، وادعاءات لاهثة بأننا لم نواجه قط مخاطر أكبر! أو عدم يقين كالذي نشهده اليوم أو في المستقبل القريب.

في الواقع، تصدعت كرتي البلورية مرات عديدة بسبب تطورات وأحداث يُزعم بأنها «غير مسبوقة» لدرجة أنني بالكاد أتمكن من إحصائها. انظر إلى سبعينيات القرن العشرين، لقد كان عقداً من الاضطرابات غير العادية، تخلله صدمة النفط في عام 1973، وأعقبه بسرعة «التضخم العظيم» وفترة من الركود التضخمي، مما مهد الطريق لأول مرحلة «غير مسبوقة» على ما يبدو في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وبينما عكس الانتعاش النسبي الذي شهدته بعض اقتصادات العالم في فترة الثمانينيات الصورة القاتمة للقرن السابق، جاءت التسعينيات، والتي انتهت مع أزمة مالية آسيوية شكلت بداية ما سمي آنذاك بالأزمة الأولى للعولمة. وأشارت ثورة تكنولوجيا المعلومات وفقاعة الدوت كوم، في تلك المرحلة وصولاً لمطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى وفرة فقاعات الأصول التي أصابت أسواق العقارات العالمية والعديد من الأدوات المالية، من الرهن العقاري الثانوي إلى تدفقات الائتمان والأسهم الأوسع.

ثم أدت العدوى العابرة للحدود لاحقاً إلى تغذية الأزمة المالية العالمية بين عامي 2008 و2009، وهي ثورة «غير مسبوقة» أخرى لما أصبح، في تلك المرحلة، عالماً ممتلئاً بالأزمات.

وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن الظروف العالمية لا يمكن أن تصبح أسوأ مما هي عليه، قلبت جائحة صحية نادرة، وأحداث مناخية متطرفة، ذاك الفكر التقليدي رأساً على عقب. وفاقم المد المتصاعد من الحمائية والحروب التجارية والتكنولوجية الوضع سوءاً، ومهّد لصدام محتمل بين القوتين العظميين في العالم الولايات المتحدة والصين.

أضف إلى ذلك اندلاع حرب شعواء في أوروبا الشرقية، وأخرى دامية في الشرق الأوسط، ليصبح الأمر غير المسبوق والأزمات الدائمة والمتعددة القاعدة الجديدة.

ومن خلال تجربتي، سأتطرق لثلاث نقاط رئيسية ربما تساعدنا في كشف بعض الغموض الذي ينتظرنا في المستقبل. أولاً، «تعلم أن تتوقع ما هو غير متوقع». فالجنس البشري ينظر بطبيعته إلى الماضي القريب بوصفه أفضل مؤشر للمستقبل. ويميل صناع السياسات بشكل خاص إلى اتباع هذا النهج قصير النظر، من خلال إصلاح العيوب في الأنظمة التي أدت إلى الأزمة الأخيرة دون التفكير في مسببات الأزمة التالية. وعلى سبيل المثال، في أواخر التسعينيات، بنت الاقتصادات الآسيوية خزانات ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي، وهي خطوة كان من شأنها أن تساعد في منع الأزمة المالية الآسيوية المقبلة، ولكنها لم تفعل شيئاً لوقفها، مما أدى لانفجار فقاعة الأسهم.

ثانياً، هناك سلسلة متصلة لا لُبس فيها من الفترات الزمنية التي سُميت ب «غير المسبوقة»، تُولد خلالها إحدى الأزمات الأزمة اللاحقة. ومثال ذلك، التدابير الصارمة التي اتخذها البنك المركزي الأمريكي، بقيادة بول فولكر، لكبح جماح التضخم المتطرف الذي شهدته الولايات المتحدة خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات عند 13.5%. في ذلك الوقت، استمر بول برفع أسعار الفائدة حتى تجاوز معدل الرهن العقاري السنوي 16%، الأعلى تاريخياً. لكن، على الرغم من الفوز في حرب التضخم، أهدر صُناع السياسات فيما بعد فرصة الحفاظ على السلام، وخفضوا أسعار الفائدة إلى مستويات متدنية للغاية زعزعت الاستقرار المالي.

أما النقطة الثالثة، فهي حقيقة أن الأزمات والتطورات «الاستثنائية» المصاحبة باتت هي القاعدة الآن وليس الاستثناء. فخلال العقود الأخيرة، كان هناك في المتوسط كارثة واحدة كل ثلاث أو أربع سنوات. إذ أعقب أزمة الديون في أمريكا اللاتينية عام 1982 انهيار سوق الأوراق المالية عام 1987، وأزمة الادخار والقروض في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1986 و1995، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية في اليابان عام 1990، وفي المكسيك 1995، والانهيار الوشيك لصندوق التحوط «لونغ تيرم كابيتال» عام 1998. فضلاً عن انهيار فقاعة الدوت كوم عام 2000، وفضيحة «إنرون» المحاسبية في 2001، وكارثة الرهن العقاري الثانوي في 2007، وأزمة الديون السيادية في منطقة اليورو لعام 2010. ثم جاءت بعد ذلك نوبة الغضب من الخفض التدريجي للفائدة والخوف من تطبيع السياسة من قبل الفيدرالي عام 2013، تلاها انهيار سوق الأسهم الصينية في 2015، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي اشتعلت رسمياً عام 2018، وأخيراً وليس آخراً جائحة كورونا عام 2020، وما أحدثته من ضرر للاقتصاد العالمي وتراجع للعولمة خلال السنوات الثلاث اللاحقة.

وفي ظل هذه الخلفية القاتمة، يواجه المتنبّئون مهمة تبدو مستحيلة، وهي توقع المستقبل. وبطبيعة الحال، يواجه صناع السياسات أيضاً تحدياً جسيماً بنفس القدر. ولكن هذا لا يبرر تقديم أعذار تخدم مصالح ذاتية لارتكاب أخطاء سياسية، أو تصوير سوء تسعير أسواق الأصول والاضطرابات الاقتصادية باعتبارها حوادث لا مفر منها وناشئة عما يسمى «ظروفاً غير مسبوقة». فالصدمات وجدت لتبقى، ومهمتنا ليست التنبؤ بالصدمة التالية، بل زيادة قدرتنا على مواجهتها، وعدم الانجرار وراء خرافة أنها «تطورات غير مسبوقة».

*عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مجلس الإدارة السابق ل «مورغان ستانلي» آسيا«إنترست دوت كوم»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2snss3mf

عن الكاتب

عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مجلس الإدارة السابق ل «مورغان ستانلي» آسيا«إنترست دوت كوم»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"