عادي
المهمشون أبطال اليوم الخامس في مهرجان المسرح العربي

«زغنبوت» تلامس جراحنا.. و«البؤساء» تدعو إلى الأمل

20:16 مساء
قراءة 5 دقائق
مشهد من زغنبوت
مشهد من زغنبوت

بغداد: محمد إسماعيل زاهر
من أين يبدأ الحديث عن الجوع؟ من كوابيس مدونة التاريخ، المرتبطة بأحداث عاناها البشر ودارت حول القحط والجفاف والتصحر وانقطاع المطر، أم من ذاكرة جمعية ارتبطت بالمهمشين؟ والذين رددوا دائماً «الجوع كافر»، الجوع أيضاً لا يعني ندرة الطعام أو عدم وجوده وحسب، ولكنه يؤثر في الروح والأخلاق والسلوكات، هو ببساطة حالة جرح إنساني. لعلّ هذه الملاحظات تدور في ذهن المشاهد وهو يتابع العرض الإماراتي «زغنبوت» من تأليف إسماعيل عبد الله وإخراج محمد العامري، والذي استضافه مسرح الرشيد في بغداد ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي.

الصورة
البؤساء


«الزغنبوت» كلمة تعني الذرة الرفيعة التي لا تأكلها إلا الحيوانات، كان الناس يطحنونها ويتناولونها عند شح الطعام وتفشي المجاعة، وهو ما يشير إليه العرض مباشرة بداية من المشهد الافتتاحي، حيث تنفتح الستارة على مجموعة من الفقراء الذين يحملون قدور الطعام، ويرفعون أيديهم إلى السماء ويدعون الله أن يرسل عليهم المطر ويرزقهم، وتتتابع المشاهد المؤثرة في حركة سريعة مصحوبة بإضاءة تجعلنا نتطلع إلى الأحداث بشغف، فهذا أب يحلق شعر رأس ابنته، ليحولها إلى صبي بإمكانه العمل، وهناك ابن يحاول التخلص من والده، ووسط هذه المجموعة يبرز التاجر داوود الذي يلعب دور الوسيط بين المدينة وثري غريب قادم من بعيد يدعى البانيان، يريد الهيمنة على مقدرات المدينة، والأهم يرغب في الزواج من الفتاة الجميلة جوهرة ابنة النوخذة دواس التي تحب أحد شباب المدينة.

دلالات
تتلاحق الأحداث وتتضمن حوارات تشير إلى رفض أهل المدينة زواج ابنتهم من البانيان، ذلك الغريب الذي تختلف عاداته وتقاليده عن ثقافتهم، ولكن وكيله داوود يستغل الفقر والجوع ليمارس عدة أنواع من الضغوط التي تنتهي بخضوع الجميع للبانيان، ويتحدد موعد زواجه من الجوهرة، ولكن قبل يوم الزفاف تحترق سفن البانيان، فتفر البنت مع حبيبها بعيداً.
العرض يحتاج إلى أكثر من مستوى للقراءة، نحن أمام مسرحية شبه ملحمية بما تضمنته من غناء ورقص وديكور وأداء لافت للممثلين، تتوافر لها عدة جماليات يأتي في مقدمتها اللعب على الإضاءة، وهناك حس شعبي قوي يهيمن على الأجواء، يظهر في الملابس والخشبة المؤثثة بفضاء حميمي والموسيقى الشعبية، ولكن النص ينفتح من جانب آخر على بعد إنساني، فأمام المشاهد تدور وقائع يمكن أن تحدث في أي مكان، ولا ترتبط بزمان محدد، ولذلك نحن لا نعرف على وجه الدقة الحقبة التي تدور فيها الأحداث. كذلك يتضمن العرض حزمة من الرموز والدلالات، فوسط كل هذا الجوع يبرز أحد الذين استطاعوا الثراء وامتلاك وجاهة ومكانة وكلمة مؤثرة، في مقابل ذلك هناك بشر يعيشون على الكفاف ولا يجدون قوت يومهم، وفي مثل هذا المناخ يمكن للغريب والمتربص أن يخترق المجموعة المتلاحمة ويعبث بمقدراتها من خلال أتباع يروّجون لوجهة نظره حتى لو كانت تتناقض مع قيم وثقافة تلك المجموعة، وعلى الهامش قصة حب وأحاديث تحيل إلى مكانة المرأة في الماضي، حيث لم يكن هناك من يستمع إلى رأيها.
توافرت للعرض، وهو من إنتاج مسرح الشارقة الوطني، الكثير من عناصر النجاح، ويأتي على رأسها تلك المشهدية البصرية التي استطاعت أن تجذب المشاهدين وتلفت انتباههم، وبدا ذلك في الاستقبال الحافل الذي قابل به الجمهور العرض في مسرح الرشيد، وسبق للعرض أن حصد عدة جوائز في الدورة السابقة من أيام الشارقة المسرحية، منها: جائزة أفضل عرض متكامل، وأفضل إخراج، وأفضل تأليف، وأفضل إضاءة، وأفضل مكياج.

الصورة

معالجة جديدة
بدا أن اليوم الخامس من مهرجان المسرح العربي قد خصص لقضايا المهمشين والفقراء، فعلى الوتيرة نفسها جاء العرض المصري «البؤساء» الذي استضافه المسرح الوطني في بغداد، والعرض معالجة جديدة لرواية فيكتور هوغو، ومن إخراج محمود حسن حجاج، ويجد المشاهد نفسه أمام سؤال ضروري وهو يستعد لمتابعة العرض: ما الذي يمكن أن تقدمه رؤية جديدة لواحدة من أهم روايات القرن التاسع عشر في فرنسا؟ والتي عالجها الكثيرون في ما سبق، حيث قدمت في العديد من العروض المسرحية والأفلام السينمائية، وفضلاً عن هذا السؤال هناك ملاحظة تتعلق بتوقعاتنا إزاء عمل نفذته مجموعة هواة، بعض طلاب جامعة عين شمس، وتتصاعد التوقعات أكثر، عندما نعرف أن هذا العرض حاز بدوره عدة جوائز.
يبدأ العرض بشباب يلهون بالدمى، ومجموعة أخرى من الشباب تلعب بعجين الخبز، وفي الخلفية هناك صوت الراوي الذي يقول: «كم نتمنى محو البؤس من العالم»، ويسترسل في حديثه عن الطبيعة الإنسانية، وهل هي خيّرة بطبعها أم تنحو باتجاه الشر؟ وهل يستطيع الإنسان الاختيار؟ وهل فطرتنا سليمة؟ بعد ذلك تبدأ قصة بطل «البؤساء» جان فالجان، الذي سجن لمدة 19 عاماً، لأنه سرق رغيفاً من الخبز، نراه وهو في السجن مجرد رقم، حيث يسأله السجان عن اسمه، وعندما يخبره ينهال عليه بالضرب ولا يتوقف حتى يخبره برقمه، وفي حوارات متعددة يسترجع فيها فالجان أحداث حياته، يكتشف أنه ظل طوال عمره مغترباً، فقد نفسه أول مرة عندما سرق، بسبب الجوع، وفقدها مرة ثانية عندما تحول إلى رقم في السجن، ويصرخ متسائلاً: «لماذا تكرهني الحياة؟»، وعندما ينال حريته ويهيم على وجهه ويقابل أحد الرهبان، يضعه المؤلف في محنة الاختيار بين الخير والشر، حيث سيعاود السرقة مرة أخرى، وستلقي الشرطة القبض عليه، ولكن الراهب سيقول لهم إنه هو من أعطاه الأشياء التي وجدوها معه، هنا يتغير فالجان إلى النهاية، سيصبح شخصاً خيراً، ويساعد الآخرين، ويعفو عن الشرطي الذي ظل يطارده لسنوات، وتنتهي الرواية بتبني فالجان للطفلة كوزيت بعد أن ماتت أمها فانتين. البؤس في تلك الرواية الشهيرة لا يقتصر على فالجان، فكل الشخصيات تنزف ألماً بسبب الأوضاع الاجتماعية في فرنسا آنذاك، وكل الشخصيات مأزومة وتشعر بالضياع في عالم قاسٍ، وكلها تراوح في تلك المساحة الملتبسة الواقعة بين العدل والقانون.
العرض يسرد علينا رواية هوغو كما قرأناها أو شاهدناها سابقاً، والجديد الذي يقدمه يتمثل في توظيف الدمى بذكاء، فكل شخصية مستلبة ليست إلا دمية، يقف وراءها من يحركها كما يشاء، ويتحدث بصوتها الذي يشبه صوت «الأراجوز»، وعندما تتصالح كل شخصية مع عالمها، أو تستطيع الاختيار بين مواقف الحياة المختلفة، وبعد أن تمتلك الإرادة، تسقط الدمية على الأرض، وتستعيد الشخصية إنسانيتها المهدرة، وكأن المخرج يود القول إن البشر من دون إرادة ليسوا أكثر من دمى.

الصورة
بؤساء

 تقنيات جمالية
حاول مخرج «البؤساء» أن يصوّر البؤس أيضاً، من خلال تقنيات جمالية، تمثلت في الخشبة المعتمة معظم أوقات العرض، وتلك الملابس السوداء التي تعكس الحالة النفسية التي سعى العرض كي ينقلها إلى المشاهد، ولم يكتفِ بنهاية تضعنا على أعتاب حياة جديدة يعيش فيها فالجان مع كوزيت كأب وابنته، بل ردد الراوي جملته الافتتاحية: «كم نتمنى محو البؤس من العالم»، لتكون خاتمة تدعو المتفرج إلى البحث عن الأمل.

الصورة
مشهد من البؤساء
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3y9mmn6b

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"