من الكذب إلى العنف

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيل هذا العنوان إلى أحد مؤلفات الفيلسوفة الألمانية ذات الأصول اليهودية حنة أرنت التي لجأت إلى أمريكا هرباً من المحرقة وخصصت القسم الأكبر من كتاباتها السياسية لانتقاد الأنظمة الشمولية التي اعتبرتها مسؤولة عن مقتل ملايين البشر.

وتستشهد الفيلسوفة في الفصل الأول من الكتاب الذي تتحدث فيه عن الغزو الأمريكي لفيتنام وعن حرص واشنطن الشديد على تجنب الهزيمة المذلة، بما قاله روبرت ماكنمارا عندما وصف الحرب في فيتنام بالعبارة التالية: «ليس الأمر بالعرض الجميل أن نرى القوة الأولى في العالم تقتل أو تجرح كل أسبوع الآلاف من الأشخاص غير المقاتلين مع الحرص على إجبار أمة صغيرة ومتخلفة على قبول حل يظل مرفوضاً إلى حد بعيد». وتسعى الفيلسوفة أيضاً من خلال هذا الفصل إلى تقديم رؤيتها بشأن الكذب في السياسة انطلاقاً من قراءة نقدية لوثائق البنتاغون بشأن الحرب في فيتنام.

ويمكن القول إنه من فيتنام إلى الحرب الهمجية على غزة ومروراً بالغزو الأمريكي للعراق، هناك عنوان واحد يطغى على الأحداث يتمثل في الكذب والتزييف وقلب الحقائق ومحاولة الجلاد تقمّص دور الضحية، ويذهب هذا الكذب إلى الترويج لشعارات من قبيل الدفاع المشروع عن النفس في مواجهة شعب أعزل، ومحاولة توظيف المؤسسات الدولية لتبرير مشاهد الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة. يشير الباحث دفيد فونسيكا، في سياق متصل، إلى أن الكذب في السياسة يملك في حد ذاته قانونه الخاص وتبريراته وتفسيراته ويصعب علينا أن نقول أشياء واضحة ومحدّدة بشأنه باستثناء توجيه التوبيخ له، وتكمن النواة الأساسية للكذب السياسي في كونه يفوق كل ما نملكه من إمكانيات للوصف.

وليس من قبيل الصدفة أن يقال إن الحقيقة في زمن الحروب تعتبر الضحية الأولى، لأن ميزان القوة قائم بالدرجة الأولى على الكذب، ومن ثم فإن ونستون تشرشل، أشهر وزير أول في تاريخ بريطانيا، يقول: إن الحقيقة في زمن الحروب تكون باهظة الثمن، بحيث يتوجب إحاطتها بحراس خاصين من الكذب. ويجري بناءً على ذلك تبرير الكذب في السياسة من منطلق الادعاء بأنه يشكل جزءاً من منطق الدولة وأحد أسباب وجودها، وكأن الغاية يمكنها أن تبرّر الوسيلة في كل الأحوال، حتى وإن كان الثمن هو التضحية بعدد كبير من الناس ومن أجل طمس الحقائق وتزييف الواقع.

ومن الواضح - في اعتقادنا- أن الكذب لا يقتصر على نظام سياسي بعينه في الشرق أو في الغرب، لكن الأحداث التاريخية القريبة والبعيدة، تبين لنا أن الدول الغربية والقوى الاستعمارية في أوروبا كانت أكثر الأنظمة احترافية في صنع الأكاذيب والترويج لها على نطاق واسع.

وعندما نتحدث الآن عن العنف ونشجبه، فإن ذلك يجعلنا نعترف صراحة بأن العنف الذي يُمارس في أمكنة عديدة من العالم هو بشكل واضح ثمرة للكذب السياسي الذي يُمارس على نطاق منهجي واسع، من طرف الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yaye6ruy

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"