يعترف الاقتصادي الكبير يانيس فاروفاكيس في كتابه «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي» (ترجمة عماد شيحة) بأن الاقتصاد أكثر أهمية من أن يترك للاقتصاديين، وكان هذا دافعه لتأليف ذلك الكتاب، وبصفته أستاذاً في علم الاقتصاد كان يرى أنه كلما أصبحت نماذجنا عن الاقتصاد أكثر علمية فإن ارتباطها بالاقتصاد الحقيقي القائم يقل، وهذا عكس ما يحدث في علم الفيزياء والهندسة وبقية العلوم.
هناك سبب آخر لتأليف الكتاب كما يقول المؤلف: «فابنتي كسينيا غائبة باستمرار عن حياتي، وبما أنها تعيش في استراليا وأنا في اليونان، فإما أن يكون كل منا بعيداً عن الآخر، وإما أننا نعدّ الأيام حينما نلتقي إلى أن يحين موعد الفراق التالي، والحديث كما لو أنه موجّه إليها عن أمور لم يسمح لنا ضيق الوقت بمناقشتها، يشعرني بالارتياح».
كان تأليف هذا الكتاب متعة – كما يقول مؤلفه – إذ إنه النص الوحيد الذي كتبه بدون هوامش أو مراجع، أو الأدوات اللازمة للكتب السياسية أو العلمية، كان الكتاب يكتب نفسه من دون خطة أو جدول محتويات مؤقت أو مخطط أولي لتوجيهه، لم تستغرق الكتابة إلا تسعة أيام، بلغته الأم، وتغيرت الحياة بعد عام من نشر الكتاب في اليونان، فقد ترجم الكتاب بعد اختياره وزيراً في أعقاب انهيار الاقتصاد اليوناني، إلى 30 لغة، واكتسبت تأملاته جمهوراً واسعاً في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وأماكن أخرى، وكانت الإنجليزية اللغة الوحيدة التي لم يترجم إليها في البداية.
كان تأليف الكتاب – كما يوضح – مؤلماً بصورة استثنائية وذلك لتوثيقه أحداث 2015 المأساوية في اليونان، وكانت إعادة صياغة الكتاب لكي يترجم إلى الإنجليزية علاجاً شافياً، الهرب من المصائب والمحن التي تحيق بالمرء في دوامة اقتصاد منهار، يقول: «لقد أتاح لي العودة إلى ذات مفقودة منذ زمن طويل كتبت ذات يوم بسلام وسكينة من دون هجمات الصحافة المستمرة، عبر فعل ما أحببته دوماً: التماس سبل لمخالفة نفسي من أجل اكتشاف ماهية أفكاري الحقيقية».
يقول المؤلف: «في ضوء ما كتبته للتوّ، قد يفاجأ القراء بغياب أي إشارة إلى «رأس المال» أو«الرأسمالية» في الكتاب، ليس بسبب وجود أي خطب فيها، لكن لأنها محملة بتركة من الهموم الثقيلة، تقف في طريق إنارة جوهر الأمور، لذلك استخدمت مصطلح «مجتمع السوق» عوضاً عن التحدث عن الرأسمالية، وعوضا عن«رأس المال» ستجدون كلمات أكثر معيارية مثل«آلية» و«إنتاج» لماذا نستخدم الرطانة إن كان في وسعنا تفاديها؟».
يرى المؤلف أن البشر قاموا منذ قرابة 82 ألف سنة بالوثبة الكبرى الأولى: استخدام الأحبال الصوتية لتدبر التكلم وتجاوز الصرخات غير المفهومة، وبعد ذلك بسبعين ألف عام، قاموا بالوثبة الكبرى الثانية: نجحوا في زراعة الأرض، لأن القدرة على التكلم وإنتاج الطعام، بدلاً من مجرد الصراخ واستهلاك ما وفرته البيئة بصورة طبيعية (الحيوانات البرية، ثمار الجوز، التوت، الأسماك) أدت إلى ما ندعوه الآن الاقتصاد.
اليوم بعد 12 ألف عام من اختراع الزراعة لدينا من الأسباب ما يجعلنا ندرك أن تلك اللحظة تاريخية حقاً، فقد نجح البشر للمرة الأولى في تجنب الاعتماد على سخاء الطبيعة: تعلموا ببذل جهد كبير أن يجعلوها تنتج سلعا لاستعمالهم الشخصي، وعلى غرار الثورات التكنولوجية كافة، لم تكن تلك الثورة ثورة قررت البشرية الشروع فيها على نحو واع، وبالتجريب والملاحظة تطورت تدريجياً التكنولوجيا التي أتاحت لنا أن نزرع بمزيد من الكفاءة، لكن المجتمع البشري تغير تغيراً جذرياً، لأن الإنتاج الزراعي خلق للمرة الأولى العنصر الأساسي للاقتصاد الحقيقي: الفائض.
وهكذا يقدم المؤلف معلوماته بسلاسة وبساطة، معتمداً على ملء الفجوات في حديثه، فهو فور الانتهاء من هذا الكلام، يتساءل ما هو الفائض؟ وببساطة أعمق يجيب بأنه: الجزء الزائد الذي يفسح المجال للتراكم والاستعمال المستقبلي.