إشكالية القيم في العلاقات الدولية

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحسين الزاوي

تثير إشكالية القيم في المجال السياسي، وفي العلاقات الدولية نقاشاً حاداً يصعب تجاوزه، لأنه يتعلق بضمير الإنسان وبوعيه وبأسلوب تصوره لحريته، ويصدق ذلك على الأفراد، كما يصدق على الدول؛ إذ إن تصاعد حدة الأزمات قلّص بشكل كبير من مجال الأخلاق والمعايير الإنسانية المشتركة بين الشعوب على اختلاف مرجعياتها الثقافية والدينية، وبخاصة أن البشرية وكلما زاد تقدمها العلمي ورخاؤها المادي، تراجع التزامها بمبادئ العيش المشترك وازداد من ثم، مستوى الأنانية لدى أفرادها ونخبها.

يقال من الناحية النظرية، إن الإنسان هو تركيب حرّ ومعقد بين ما هو كوني ومشترك، وبين ما هو خاص، ومن هذا المنطلق فهو مطالب بالارتقاء بسلوكه لقبول الآخر، وجعل الغيرية مكوِّناً أساسياً لعناصر شخصيته، بيد أن ما يحدث الآن على مستوى العلاقات الدولية مناقض تماماً لهذه المنطلقات النظرية المتعارف عليها، لأن الدول التي كانت تطالب دائماً باحترام الآخر هي التي ترفض على مستوى الممارسة، الارتقاء بسلوكياتها من أجل احترام حقوق الآخرين.

وتعتبر القيمة مفهوماً فلسفياً وتُشكّل مبحثاً مستقلاً على المستوى النظري والتطبيقي، يهتم بالقيم والمعايير في سياق تصوراتها المختلفة لدى مختلف الشعوب والثقافات؛ وعليه فإن القيمة هي فكرة يتمسّك بها فرد أو مجموعة اجتماعية، في سياق ثقافي وتاريخي محدّد، وضمن شروط معيّنة ومتوافق عليها. ويجعل الفرد أو المجموعة من هذه الفكرة مركزاً لتفكيرهم ونشاطهم العملي؛ وبما أن المجموعات الاجتماعية الحاملة والمدافعة عن مثل هذه الأفكار تتعدّد وتختلف، بحسب السياقات الزمانية والمكانية، فإن القيم التي تعبّر عنها تلك الفكرة، تختلف هي الأخرى، وتصبح قادرة على التأثير وقابلة للتأثر في اللحظة نفسها.

لقد أصبح مفهوم القيم مهيمناً على النقاش العام في أغلب المجتمعات المتطورة لاسيما في الغرب، وذلك على حساب مفهوم المعتقدات والقناعات، فقد ظلت المجتمعات الغربية منذ عصري النهضة والتنوير تبشّران بالقيم المشتركة، وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي قيم لا يمكن للشرق والجنوب ولباقي البشرية أن يرفضها، فكل المجتمعات تصبو إلى تطوير مؤسساتها التمثيلية والتنفيذية وإلى احترام حقوق الإنسان؛ لكن مثل هذه القيم التي تحوّلت مع مرور الوقت إلى شعارات للمزايدة والضغط السياسي، لا يمكنها أن تختزل منظومة القيم بكل تفاصيلها وغناها، ولا يمكنها في السياق نفسه، أن تشطب بجرة قلم أنساق القيم الأخرى المتداولة لدى باقي الشعوب، لصالح منظومة غربية ترفض القبول بالقيم الأخرى، وترى في الغيرية معياراً أساسياً لقبول الآخر لقيمها ليس إلاّ.

عندما يناقش - في السياق نفسه- أوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق إشكالية القيم، فإنه يشير إلى أنه قد أصبح لها مرجعية غربية وطابع كوني، من دون أن يستبعد إمكانية، أن تحتجّ قوى أخرى بالقول إن لها منظومتها القيمية المختلفة؛ ومع ذلك فهو يرى أن الاعتراض الأساسي والجوهري لا يتعلق بمضمون القيم الغربية نفسها، ولكنه يتصل بالإسقاطات التي تخضع لها وبعمليات التدخل في شؤون الغير، استناداً إلى تلك القيم، ومن ثم فإن النقاش مع الغرب والاختلاف معه، ليس له صلة بالقيم بقدر ما هو مرتبط برفض السياسة الخارجية الأمريكية القائمة على التبشير الأخلاقي والقيمي الذي يجعلها تقسّم العالم إلى شطرين: يرمز الأول إلى الخير، وتُنصّب واشنطن نفسها وصية عليه؛ أما الثاني فيُنظر إليه على أنه مصدر للشرور والأزمات، وكأن الغرب يصرّ بذلك على ترديد عبارة جان بول سارتر: «الآخرون هم الجحيم».

ويعتقد الغرب أن المرجعية الأساسية للقيم التي يجب أن تظل مهيمنة على العالم، هي القيم ذات الجذور المسيحية اليهودية في صورتها المدنية الحديثة والمعاصرة، وذلك على الرغم من وجود توجّه جدي لدى العديد من المثقفين في الغرب، يدعو إلى التخلص من المركزية الغربية، ويسعى إلى الدخول في حوار مثمر مع التصورات الأخرى لمنظومات القيم في العالم، ويمكننا أن نذكر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، ما قدمه كلود ميير في كتابه الموسوم: «الغرب في مواجهة نهضة الصين»، والذي يبحث من خلاله إمكانية إقامة حوار ما بين القيم في الغرب والقيم الصينية؛ ولكن مثل هذه الدعوات إلى الحوار، تظل هامشية داخل سياق الثقافة الغربية، لأن الاتجاه الغالب هو الذي ما زال متشبثاً بفرضية الحق الغربي في قيادة العالم، تنفيذاً لإرادة غيبية مغفلة ومبهمة. ويمثل تيار المحافظين الجدد في أمريكا، أبرز التوجهات الفكرية والسياسية التي تؤمن إيماناً مطلقاً بتفوق الإنسان الغربي.

ويصف أوبير فيدرين هؤلاء المحافظين الجدد ب«البلهاء الجدد»، كما يشير إلى مواقفهم التاريخية المتشدّدة في أمريكا، وإلى رفضهم لكل توافق مع الاتحاد السوفييتي سابقاً، ويذكر أيضاً أن هؤلاء المحافظين يرون أن الغرب مهدّد من طرف حضارات مناوئة له. ويتحمل هذا التيار، ومن يدور في فلكه مسؤولية مباشرة عن المآسي التي تقع الآن في العالم، لاسيما في غزة، ويطرح سلوكه أسئلة جدية بشأن الطابع الكوني للقيم الإنسانية التي يجري الدفاع عنها في مناطق، والدوس عليها في مناطق أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3au5y8kb

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"