سيادة الدول في عالم متغير

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

تعتبر السيادة من ضمن العناصر الأساسية في تكوين الدولة إلى جانب مقومات مادية وقانونية أخرى، ولا يخلو تحديد مفهوم دقيق لها من صعوبات مرتبطة في مجملها بتطور المفهوم، وبخلفياته الفلسفية والقانونية والسياسية.

إن للسيادة صورتين، الأولى داخلية، في مواجهة السكان والإقليم، والثانية خارجية، تحيل إلى الحرية والسلطة التي تمتلكها الدولة؛ فيما يتعلق باتخاذ قراراتها وسلوكياتها الخارجية، انسجاماً مع مصالحها وأهدافها.

وإذا كانت السيادة في مدلولها الداخلي، ترتبط بالسلطة المطلقة التي لا تحدّها ولا تعلوها أية سلطة أخرى، فإن السيادة في مظهرها الدولي، تفترض استحضار مجموعة من العوامل، ذلك أنها لا تتأتّى إلا من خلال احترام الدّول لالتزاماتها الدولية المختلفة، بمقتضى معاهداتها، وفي إطار ضوابط القانون الدولي.

يبدو أن فهم السيادة في بعدها الخارجي، ينطوي على قدر من الغموض أحياناً، بحيث يصعب استيعاب الموازنة بين السيادة من جهة أولى، والانصياع لمقتضيات القانون الدولي ومختلف الالتزامات الدولية من جهة ثانية.

ومثلما نجد أن حرية الفرد تظلّ محدودة ومرتبطة في جزء أساسي منها باحترام حقوق وحريات الآخرين، فإن سلوكيات الدولة ومواقفها، تبقى مقيدة باحترام ما هو متاح لمثيلاتها من الدول، ولمختلف الأشخاص الدولية الأخرى من حقوق وواجبات، انسجاماً مع مبادئ القانون الدولي المرتبطة بعدم التدخل في شؤون الدول، وعدم استعمال القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وحق الدول في اختيار نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

شهد مفهوم السيادة تطوراً كبيراً خلال العقود الأخيرة، نتيجة لتراجع النظريات والمواقف التي كانت تحيط المفهوم بهالة من القداسة، وذلك تحت ضغط تشابك العلاقات الدولية، وتطوّر أداء ومهام المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وبروز فاعلين دوليين جدد كالشركات الكبرى، وتطور وسائل الاتصال الحديثة، وتصاعد المكانة الدولية للفرد، وتنامي مظاهر التنسيق والتعاون الدوليين لمواجهة مخاطر وتهديدات مشتركة، كما هو الشأن بمكافحة «الإرهاب» ومواجهة تلوّث البيئة والجريمة المنظمة والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، علاوة على تشابك العلاقات والمصالح الدوليين على مختلف الواجهات، وتطور منظومة حقوق الإنسان، وتزايد الإصلاحات الديمقراطية على امتداد مناطق مختلفة من العالم.

ومن جانب آخر، تعززت آليات العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية ضمن الممارسات الدولية، وتنامت التجاوزات والتهديدات التي تطول السّيادة في جانبها الخارجي، نتيجة سلوكيات فردية تقودها بعض الدول الكبرى، أو في إطار جماعي، من خلال تدخلات تقودها بعض الدول، أو عبر مجلس الأمن بمبررات ودواعٍ متصلة بحماية حقوق الإنسان، ودعم الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب.

نصت المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة في فقرتها الأولى على أن الهيئة وأعضاءها وفي سعيهم لتحقيق مقاصد المنظمة المتصلة بحفظ السلم والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الدول، وتحقيق التعاون على حل المسائل الدولية، وتقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، أي معاملة الدول على نفس المستوى، بما يعنيه ذلك من تكافؤ في التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات، بغضّ النظر عن إمكانياتها ومقوماتها الاقتصادية، والبشرية، والعسكرية والطبيعية، ومن امتلاك لحرية التحرك على المستوى الدولي، فيما يتعلق بربط العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، والانضمام أو الانسحاب من المنظمات الإقليمية والدولية.

وأمام زحف العولمة التي ضيّقت من هامش تحرك الدول، مع توجّه هذه الأخيرة نحو إرساء تكتلات وشراكات اقتصادية وتجارية، وتطور وسائل الاتصال، وما رافق ذلك من تضييق للمسافات بين الشعوب تبدل مفهوم السيادة، فيما أصبحت الشركات العالمية الكبرى التي كانت تنعت حتى وقت قريب بكونها آلية للهيمنة والاستغلال والإمبريالية، محطّ تنافس بين الدول النامية التي تمنحها تسهيلات مغرية لتحفيزها على الاستثمار فوق أراضيها.

وهكذا أصبحت الكثير من مبادئ القانون الدولي، كما هو الشأن بالنسبة لتحريم استخدام القوة أو مجرد التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية، أو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول محل تساؤل، بعدما طالتها الكثير من التحريفات، حيث تنامت أشكال التدخل وتباينت مجالاته ودوافعه، ورغم الصمت الدولي تواجه به هذه الخروقات والتي غالباً ما أصبح ينظر إليها كإفراز طبيعي للتطورات الدولية الراهنة، فإنها كثيراً ما تخلف نقاشات وجدالات سياسية وأكاديمية واسعة بصدد شرعيتها أو مدى ضرورتها.

إن التحولات والتفاعلات التي شهدها العالم ما بعد الحرب الباردة، هي تجسيد لرؤية الغرب المنتصر - بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها المستفيد الأكبر من زوال الاتحاد السوفييتي-، للعالم بتوازناته وأولوياته، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، سواء عبر توظيف الشرعية الدولية في هذا الخصوص، أو من خلال ممارسات انفرادية لا تخلو من تعسف أحياناً.

ومن هذا المنطلق، وأمام السيل الجارف من التحديات الأمنية والاقتصادية والثقافية والرقمية التي تواجهها، أصبح لزاماً على الدول النامية ومن ضمنها البلدان العربية أيضاً، اعتماد العديد من التدابير الكفيلة بحفظ سيادتها وحماية مصالحها في عالم متغير، وذلك من خلال إجراء المزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وتشجيع البحث العلمي، والانخراط ضمن تكتلات اقتصادي قوية، وتوطين التكنولوجيا الحديثة، والدفع باتجاه إصلاح الأمم المتحدة ونحو إرساء نظام دولي تعدّدي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3uta245f

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"