ألفة الدم

00:34 صباحا
قراءة دقيقتين

وليد عثمان
تجاوزنا بكثير مسألة التحذير من عنف الشاشة حين تحتشد مسلسلاتها وأفلامها بالعنف ويفيض منها الدم، خشية أن تغري الصغار والشباب وتغويهم بنقل ما يرون إلى الواقع فيصبح جزءاً من تفاصيله، وبالتالي تقع كل المجتمعات في خطر يأتيها متخفياً في سحر الدراما.

كان الخوف من أن يصيبنا تدفق العنف الفني بالبلادة، فنعتاد إزهاق الأرواح، واستعراض القوة أمام الضعفاء، وشيوع ثقافة غلبة الأقوى وتجاوزه القوانين والأعراف واستهانته بها.

اليوم، يمكن القول بكل اطمئنان إن شاشة الفن أصبحت أرحم من الواقع المبثوث على مدار الساعة على فضائيات الأخبار، ولم يعد عنفها المتدفق من كل مكان دافعاً إلى بكاء أغلب من يشاهده، بل إن هناك من يتابعه محاطاً بالمسليات، حتى مذيعي هذه الفضائيات أصبحوا يتعاملون مع ما يأتيها من مشاهد، بما في ذلك العواجل المدممة، بنمطية صنعها التكرار، وشعارهم يكاد يكون: ناقل العنف ليس بقاتل.

وبالضرورة، صارت أخبار استهداف الأبرياء، والغارات التي تخلّف المئات، والأعمال الإرهابية التي تستبيح حرمة البشر، وفقدان البشر لأحبائهم من المعتاد في حياة معظم الناس حول العالم بعد أن وقعوا في فخ الاعتياد المذموم.

الشاشات الإخبارية، بلا شك، في مأزق كبير، فواجبها أن تنقل ما تراه، بل تتنافس في ذلك، وفي الوقت نفسه، هي متهمة بتعويد البشر على ثمرات صراعاتهم المُرة في جنبات العالم. وفي المحصلة، وقعت الأغلبية أسيرة الاعتياد، ولم تعد مشاهد العنف في الفن تثير الخشية، بل إنها تضاءلت أمام نسخ أقسى وأكبر من توحش الواقع وساديته المتأتية من إصرار الإنسان على أن يتغذى على دم الإنسان.

لم يكن الإعلام، أياً كان شكله، بمعزل يوماً عن الحروب منذ ظهرت، فهو دوماً أداة لبث الفزع في نفوس الأعداء، ووسيلة للكذب المراد له أن يبرر الإغارة عليهم أو يسوغ قتلهم ويجعل التهليل له أمراً مألوفاً. ورغم ذلك، فإن الإعلام بقي طويلاً مشغولاً بعموميات الحروب، وكانت وسائله البدائية معنية أكثر بالنتائج دون أن تمكنها التكنولوجيا من الوقوف الطويل عند التفاصيل. حتى ما يعتبره البعض بداية للحروب المنقولة على الهواء أو المتلفزة، والمقصود بث محطة «سي إن إن» لوقائع حرب الخليج الثانية، لم يكن منخرطاً في التفاصيل بالدرجة التي بلغتها تغطية اليوم للعنف الدائر حول العالم.

اليوم، تغرق تغطية الحروب في دقائق المواجهات، وبوسعها أن تقترب أكثر لتكبر على الشاشات بقع الدماء المسالة والأجزاء البشرية المتناثرة أو المتفحمة، ومع الوقت، يصبح مرورها أمام الأعين: أعين من يقتل، أو ينقل، أو يشاهد مروراً عادياً، بل يصبح جزءاً من الفرجة بمعناها العبثي الذي يقف تأثيره عند نهاية المشهد.

وبألفة هذا العبث، تتساوى في خانات الأرقام الملايين بالأصفار، وتتداخل روايات القاتل والمقتول، ويتساوى الواحد بالألف في عدّاد الضحايا، ويتحولون إلى مجرد تفصيلة في التفاوض، أو المقايضة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5aa4vhbv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"