- كان غورباتشوف مستعداً لتدمير عقيدة الردع ووجد روحاً مشابهة في ريغان
شهد العالم فترات من الخطر النووي الشديد، ولكن رغم كل ذلك لم يتم استخدام الأسلحة النووية في الحرب منذ عام 1945، وهذا ليس بسبب الصدفة، فقد تطلّب الأمر جهوداً متضافرة. يسعى هذا الكتاب إلى مناقشة السلام النووي، والعمل على تأسيس نظام دولي فعّال للحد من الأسلحة يمنع نشوب حرب نووية.
يتطرق كتاب «الفوز والخسارة في السلام النووي» إلى تاريخ جهود الحد من التسلح النووي، ويسلط الضوء على واحدة من أبرز إنجازات الدبلوماسية خلال الحرب الباردة، والتي غالباً ما تُغفل، ألا وهي استمرار العالم خالياً من الانفجارات النووية. ويبرز كريبون الحاجة الماسة إلى تجاوز استراتيجية الردع النووي المحفوفة بالمخاطر نحو تأسيس نظام فعّال للحد من الأسلحة يمنع نشوب حرب نووية. ويُظهر هذا الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد في 2024 بالإنجليزية في 640 صفحة، كيف تجاوز زعماء الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، الحواجز لتشكيل تدابير أمنية نووية جديدة، في سعيهم لإدارة القوة النووية بشكل مختلف عن الأسلحة التقليدية. وعلى الرغم من التحديات الجمّة، إلا أن هذه الجهود تكللت بالنجاح، حيث لم تُستخدم الأسلحة النووية في النزاعات منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن.
يُعد هذا العمل الأول من نوعه الذي يقدم تاريخاً شاملاً للجهود المبذولة لتحقيق السلام النووي عبر تعزيز الردع بالتأكيدات، وكيف تم تهديده بإزالة آليات الحد من التسلح بعد نهاية الحرب الباردة. يتناول المؤلف الدبلوماسية المتقنة، اللحظات المصيرية، الإصرار اللافت، والنجاح الباهر. ويُعيد كريبون إلى الأذهان المواجهات الحاسمة بين مؤيدي الحد من الأسلحة ودعاة الردع النووي، والانعطافات المفاجئة، والنتائج غير المتوقعة التي شهدتها فترة ترومان، حتى ترامب. يظهر الكتاب كيف تطوّر الحد من الأسلحة من مجرد حظر التجارب الجوية ومعاهدة عدم الانتشار النووي إلى إبرام معاهدات فرضت تخفيضاً كبيراً في حجم الأسلحة، وقيّدت تلك الأسلحة السائبة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ومع تلاشي هذه الإنجازات الدبلوماسية بعد الحرب الباردة، بات السلام النووي مهدداً اليوم، بفعل توترات نووية متزايدة.
منع اندلاع حرب نووية
يُشدد كريبون على ضرورة إحياء وإعادة تصور جهود الحد من الأسلحة لتمكين روسيا والصين من منع اندلاع حرب نووية، مع الحاجة الملحة لإقامة ضمانات أمنية جديدة. ويقدم الكتاب رؤية لكيفية تأسيس، وإمكانية إعادة بناء ممارسات الحد من الأسلحة. يقول الكاتب: «إن إحياء، وإعادة تصور عملية الحد من الأسلحة أمر ضروري لأن العلاجات القديمة فقدت جاذبيتها، ولأن الردع في غياب الحد من الأسلحة قصة لا تنتهي على خير. إن العمل الذي ينتظرنا لا يمكن أن ينجزه المتهكّمون، لأن هؤلاء لا ينجحون في الحد من الخطر النووي؛ الواقعيون العمليون والمثاليون يفعلون ذلك. كل مسعى إنساني مهم وناجح يتطلب رؤية. إن أكبر اثنين من أصحاب الرؤى في هذه المحطات، هما رونالد ريغان، وميخائيل غورباتشوف. وقد نجح آخرون في تخفيف رؤيتهم وقبول علاجات أكثر تواضعاً. ولأن الأسلحة النووية كانت مختلفة، ولأن المخاطر الصحية التي تفرضها هذه الأسلحة كانت كبيرة للغاية، فقد وافق الرئيس جون ف. كينيدي، ورئيس الوزراء نيكيتا خروتشوف على معاهدة تنهي التجارب الجوية في عام 1963. ولأن الأسلحة النووية كانت مختلفة، فقد وافق الرئيس ريتشارد نيكسون على معاهدة لإنهاء التجارب الجوية. ووافق الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ليونيد بريجنيف في عام 1972 على معاهدة اعترفت بالضعف الوطني. ولم يتم التفاوض على أي شيء من هذا النوع من قبل».
ويشير إلى أن ولاية رونالد ريغان الأولى تميزت بتزايد الخطر النووي. وقد قوبلت إجراءاته لتعزيز الردع بمعارضة شديدة، في الداخل والخارج. ويعلق على ذلك بالقول: «انهارت مفاوضات الحد من الأسلحة. ثم، أصبحت ذروة السلام النووي ممكنة عندما سلّم أعضاء المكتب السياسي المتقدمين في السّن ميخائيل جورباتشوف مقاليد الاتحاد السوفييتي. كان جورباتشوف مستعداً لتدمير عقيدة الردع، ووجد روحاً مشابهة في ريغان، الذي تعايشت معاداته للشيوعية مع نزعته الشديدة لإلغاء عقوبة الإعدام. لقد قالا معاً إن الحرب النووية لا يمكن كسبها، ولا يجب خوضها، وكانا يقصدان ذلك بإخلاص. وتلا ذلك ذروة السلام النووي، وهي فترة عشر سنوات، شملت ولاية ريغان الثانية، ورئاسة جورج بوش الأب.
خلال هذه الفترة، قضت المعاهدات على فئات كاملة من الصواريخ التي تُطلق من الأرض، وفرضت تخفيضات كبيرة في القوات الاستراتيجية الأطول مدى، فضلاً عن القوات التقليدية في أوروبا.
تحقيق السلام النووي
بعد انتهاء الحرب الباردة، بدا الحد من الأسلحة أمراً غير ضروري. لقد وقعت المعاهدات ضحية لنجاحاتها، ولتغيّر الأولويات الوطنية، وللمخاوف الجديدة من الضعف، ولتجدد الاحتكاك بين الولايات المتحدة وروسيا. توقفت مفاوضات الحد من الأسلحة الاستراتيجية خلال الولاية الثانية لإدارة كلينتون. وقد بدأت عملية تفكك المعاهدة مع جورج دبليو بوش، وفلاديمير بوتين، فكل منهما كان يريد حرية المناورة، ولذلك فقد استغنيا عن قيود المعاهدة. وتجاهل بوتين المعاهدات التي كان يعتقد أنها تعكس ضعف وتنازلات أسلافه. وقد تسارعت وتيرة زوال الحد من الأسلحة إلى حد كبير مع اقتران بوتين ودونالد ترامب، والانجراف نحو شعار «أمريكا أولاً» الذي استولى، بعد توقف دام قرناً من الزمان، على أجزاء من الحزب الجمهوري.
يقول المؤلف: «لم نعترف بالفوز بالسلام النووي، لكننا بالتأكيد سنلاحظ خسارته. أستخدم هنا مصطلحَي الفوز والخسارة بشكل مجازي، وليس حرفياً. هناك القليل من الانتصارات الدائمة في الممارسة الصعبة للحد من الأسلحة النووية؛ يمكن أن تكون الخسائر مؤقتة أيضاً. إن خسارة السلام النووي لا تعني بالضرورة استخدام الأسلحة النووية في ساحة المعركة، واستئناف التجارب النووية. ويظل الردع قائماً، وكذلك القاعدة الأساسية المتمثلة في عدم تفجير السحب الفطرية في الحرب. إن أي زعيم يسمح باستخدام السلاح النووي لأول مرة منذ عام 1945 سوف يعيش في حالة من العار لما تبقى من التاريخ المسجل. هذه ليست حماية كافية ضد الاستخدام في ساحة المعركة، لكنها ذات معنى على الرغم من ذلك. وبينما تقوم جميع الدول التي تمتلك أسلحة نووية بإجراء تجارب نووية، فإن التجارب النووية كانت مقيدة بشكل صارم، ويمكن التحقق منها. لقد أصبح معيار عدم اختبار الأجهزة النووية الآن ربع قرن من الزمان على الرغم من الدعوة لإجراء مثل هذه التجارب لتحسين المنفعة العسكرية وإظهار العزيمة. ولم يتبق سوى دولة واحدة ناشزة، وهي كوريا الشمالية.
ويضيف: «ورغم أن خسارة السلام النووي لا تعني العودة إلى أسوأ الممارسات، إلا أنها تعني خطراً نووياً أعظم. إننا لم نصل إلى الوقت الذي كانت فيه المخاطر التي تشكلها القنبلة النووية لم يتم تسييجها بعد من خلال ممارسات الحد من الأسلحة. هناك وقت لاستعادة توازننا. في فجر العصر النووي، عندما تعرف قرّاء الصحف إلى القنبلة الذرية، وعندما رأوا الصور الأولى للسحب الفطرية، وقرأوا عن العواقب المدمرة التي لحقت بهيروشيما وناغازاكي، لم يتوقع سوى قِلة من الناس أن ينجو العالم من الحرب الذرية. لقد عاشت الأجيال السابقة على افتراض متى، وليس ما إذا كانت، سوف تظهر السحب الفطرية مرة أخرى. لقد حكم جوزيف ستالين الاتحاد السوفييتي المنتصر بقبضة حديدية، ونزل ستاره الحديدي على أوروبا المقسمة، وكان عازماً على الحصول على القنبلة النووية. وقد عمل خلفاء ستالين جاهدين حتى لا يتخلفوا عن المنافسة النووية؛ وفي بعض الأحيان، اعتقد العديد من استراتيجيي الردع الأمريكيين أن الكرملين كان في المقدمة. تلا ذلك سباق تسلح نووي هائل. لقد فاجأ مدى انتشاره الجميع. وكان القلق الوجودي عظيماً إلى الحد الذي أدى إلى تبرير إنتاج أكثر من 125 ألف سلاح نووي والحث عليه. وكان لكل من هذه الأسلحة غرض دفاعي، وهو ردع استخدامها. ولكن لردع الاستخدام، تطلبت العقيدة إثبات الإمكانات الخبيثة. تم تصنيع ما يقرب من 70 ألف قطعة سلاح في الولايات المتحدة؛ و55000 أخرى في الاتحاد السوفييتي. وقد أضافت دول أخرى ــ بريطانيا ، وفرنسا، والصين، والهند، وباكستان، وإسرائيل، وكوريا الشمالية ــ إلى هذه الأرقام. إن الاستخدام الفعلي لأي من هذه الأسلحة في ساحة المعركة يدعو إلى تصعيد غير منضبط، حيث لم يقدم أحد تفسيراً مقنعاً لكيفية ممارسة القادة للسيطرة عندما يجدون أنفسهم في طريق مسدود كبير لدرجة أنهم يحتاجون إلى سُحب فطرية.
وكان لا بد من اختبار هذه الأسلحة في الجو، فوق الجزر، وتحت الجزر المرجانية الهشة في المحيط الهادئ، وتحت الأرض، أو في المستوطنات الاستعمارية، فقد تم إجراء ما يقرب من ألفين من الاختبارات النووية؛ أكثر من نصفها من قبل الولايات المتحدة، وأكثر من سبعمئة من قبل الاتحاد السوفييتي. وكان كل اختبار بمثابة دليل على العزم والردع.
ويقر الكاتب بأن ما يقدمه هو مجرد نظرة موجزة على تاريخ معقد، ومتشعّب، مشيراً إلى الحاجة الشديدة لدراسة مفصلة تتناول هذه الموضوعات بشكل شامل. وإن إدراكه لتحديات التوازن والانتقائية في تناوله هذا الموضوع يشير إلى محاولة واعية لتقديم تحليل متوازن ومتعدد الأبعاد، حتى مع اعترافه بأن الروايات المستقبلية قد تصحح أو تعدل بعض جوانب تحليله. ويرى أن التركيز على الدبلوماسية النووية يسلط الضوء على جانب حاسم في إدارة الأسلحة النووية، مع التأكيد على أن هذا الجهد هو جزء من استراتيجية أكبر للأمن القومي والسلامة العامة.