كل مدينة هي عدة مُدن

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

لكل المدن، بدون استثتاء، نواة تتشكل منها في البداية، سرعان ما تتسع وتستوعب باستمرار وافدين جدداً إليها، إما للسكنى الدائمة، أو للإقامة المؤقتة لغايات العمل أو الدراسة وغيرها من الغايات. وما أكثر ما تتحوّل الإقامات المؤقتة إلى دائمة، حين يجد الوافدون إلى المدن من أقاليم أخرى، خاصة إذا كانت بعيدة، أنها المكان الأنسب لعيشهم واستقرار أسرهم.

وبهذا يصحّ القول إن لكل المدن سكّاناً يتحدرون من سلالات كانت هي أول من استوطن المدينة عند تأسيسها، وساهمت في تكوينها، كما ساهمت هي بدورها في تكوينهم الاجتماعي والثقافي والنفسي، وسكّاناً أتوا إليها لاحقاً، سواء من داخل البلد نفسه أو حتى من خارجه. وبمقدار ما تترك الإقامة في المدينة تأثيرها على الوافدين إليها، وتطبعهم بنمط المعيش فيها، الذي يتسم بالإيقاع السريع، مقارنة بالمعيش المعتاد في الأماكن الريفية أو الصحراوية البعيدة التي أتوا منها، كما توفر لهم وسائل ترفيه وتسلية لم يألفوا مثلها في مساقط رؤوسهم، فإنهم أيضاً يتركون بصمتهم على المدينة حين ينقلون إليها بعض أوجه المحافظة التي تشكّلت في نفوسهم حيث كانوا، بل إن الكثيرين منهم يواجهون صعوبات في التكيّف مع عادات أهل المدينة.

في الكثير من المدن ينشأ محيط سكاني حولها يضمّ، في البداية على الأقل، الآتين إليها الذين من الصعب عليهم، مالياً في المقام الأول، العيش في أحياء المدينة المركزية، وما أكثر «الأرياف» والضواحي المحيطة ببعض المدن العربية التي ينطبق عليها هذا القول كريف دمشق أو ريف حلب أو ضاحية بيروت الجنوبية. والأمر ذاته موجود في بلدان أخرى، دون أن ننسى أيضاً ما يعرف بالعشوائيات التي تقام على أطراف المدن. وعلى هذا تترتب مفاعيل اجتماعية واقتصادية جرى تناولها في الكثير من الأبحاث الرصينة لباحثين ومفكرين عرب.

ليس الباحثون وحدهم من تناول متضادات المدينة ومفارقاتها، فلا يقلّ أهمية تناول الأدب، الرواية بدرجة أساسية، للموضوع. وهذا يصحّ على الرواية العالمية، فلكي نعرف باريس أو لندن أو سانت بطرسبورج وسواها من كبريات المدن وأعرقها، من داخلها، ونقف على سيكولوجيا أهلها وثقافتهم ونمط معيشهم، علينا أن نقرأ ما كتبه كبار الأدباء الذين عاشوا في هذه المدن، أو عرفوها عن قرب، وجعلوا منها فضاء لرواياتهم.

ويصحّ ذلك أيضاً على الأدب الروائي العربي، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ولا سبيل للإحاطة بها، لكن حسبنا هنا أن نشير إلى ثلاثية نجيب محفوظ: «بين القصرين»، «قصر الشوق»، و«السكرية» التي التقطت عوالم، ولا نقول عالم، القاهرة القديمة، المدينة العريقة، لأنه ما من مدينة عربية تضاهيها في غنى التفاصيل والمفارقات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/33zws6hb

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"