أحمد مصطفى
زادت في الآونة الأخيرة عناوين الأخبار المتعلقة بعمليات تجسس صينية على الدول الغربية، من الولايات المتحدة، إلى ألمانيا، مروراً ببريطانيا. وإذا استبعدنا بريطانيا، التي غالباً ما تزايد على أمريكا في أي توجه متعلق بالسياسة الخارجية، فإن الاعتقالات في ألمانيا، وقبلها في دول أوروبية أخرى، لشخصيات سياسية، وغيرها ممن لهم علاقة بالسلطة بتهم تجسس لمصلحة الصين، تثير الاهتمام.
اتهم نواب من حزب المحافظين الحاكم الصين باستهداف معلومات النواب، وبين حين وآخر، تصدر عناوين إخبارية عن استهداف «جهات مرتبطة بالصين» لأنظمة معلومات رسمية، أو شبه رسمية بريطانية. وسبق وعلّق بعض الصينيين على اتهامات بريطانيا، تحديداً بما يعني أنها «ليست مهمة». والحقيقة أن الصين حتى لو استهدفت بريطانيا فلن يكون ذلك بغرض حاجة الصين إلى أي شيء بريطاني، فلم يعد هناك الكثير الذي يطمع فيه أحد، وإنما سيكون غرض بكين الوصول إلى معلومات وبيانات تتعلق بآخرين، وربما تمر عبر بريطانيا. هذا طبعاً إذا صحت الأخبار البريطانية تماماً.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ودول أوروبا، مثل ألمانيا وهولندا وبلجيكا، فيبدو الأمر منطقياً. ومنذ أصبحت مهام أجهزة الاستخبارات تتعلق بالاقتصاد والبزنس والمال والأعمال، أكثر منها بالعسكرية، لا شك في أن الصين طورت من أساليب جمع المعلومات من الدول الغربية، وربما أكثر من شركائها التجاريين المهمين. وهذا سبب آخر يقلل من أهمية استهداف بريطانيا، فألمانيا وهولندا أهم بالنسبة إلى بكين، اقتصادياً وتجارياً، من بريطانيا. فضلاً طبعاً عن الشريك التجاري الأكبر، الولايات المتحدة، حتى رغم العقوبات والقيود المتتالية.
بالطبع، لا يمكن استبعاد توجه الإدارة الأمريكية الحالية للرئيس الديمقراطي جو بايدن، التي جعلت أولوية سياستها الخارجية من يومها الأول «احتواء الصين وروسيا». وفي هذا السياق لا تهدأ الضغوط الأمريكية على الأوروبيين لدفعهم نحو «فك الارتباط» الاقتصادي والتجاري مع الصين. ولطالما كانت تلك الضغوط موجودة، وقاومتها أوروبا في ظل حكم تحالفات اليسار، ويمين الوسط. لكن مع صعود اليمين المتشدد، أو التحالفات معه بدأت بعض الاستجابة للضغوط الأمريكية من بعض الدول الأوروبية.
لا شك في أنه مع تلك التطورات زادت الصين من نشاطها لجمع المعلومات من تلك الدول لتضع سياساتها المستقبلية، واستراتيجياتها، للأعمال والاقتصاد والتجارة بالأساس، على أساس حساب توقعات مواقفها منها، وذلك في الأغلب هو مهمة الاستخبارات في كثير من الدول الآن: جمع المعلومات عن الشركاء مثل جمعها عن الأعداء، بالمعنى السياسي. ففي الأعمال والاقتصاد الكل منافسون، وغالباً ما تتضارب المصالح. فما بالك إذا اختلطت السياسة بالتجارة والمال والأعمال، هنا يتصور المرء أن التجسس الصيني يزداد.
كل ما سبق يبدو منطقياً، والغرب يعرف ذلك، لأن دوله تمارسه أيضاً على الشركاء والحلفاء، قبل المنافسين، والأنداد، والأعداء. فكل من لديه مصالح وأهداف استراتيجية يعمل على تحقيقها يحتاج للمعلومات، استخبارية وغيرها، عن كل من في العالم الذي يعمل فيه. ولعل الولايات المتحدة هي من أكبر الدول التي تتجسس، وتوظف أجهزة استخباراتها المتعددة لجمع المعلومات والبيانات وتحليلها في مجال المالن والأعمال، والاقتصاد، والتجارة. ومن دون تلك الجهود الاستخبارية لا يتمكن صانع القرار من إنفاذ سياسات جيدة تخدم مصالح أكبر اقتصاد في العالم. وبما أن الصين الآن هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فطبيعي ومنطقي أن يكون أكبر نشاط تجسس اقتصادي هو بين بكين، وواشنطن.
أتضور أن الانزعاج الغربي، والذي ينعكس في كثرة أخبار قضايا التجسس الصيني على الدول الغربية، ليس لأن الصين تتجسس على تلك الدول، وإنما لأن تلك الدول لا تتمكن من التجسس بالقدر الكافي على الصين. ولا يعود ذلك إلى تطور مهارات صينية في التجسس، من تجنيد غربيين وتقدم تكنولوجي فحسب، وإنما لأن الصين تختلف عن الغرب. فحكومة بكين المركزية تتحكم في البلد بشكل يختلف تماماً عن التوجه الاقتصادي المفتوح نسبياً، والذي يقترب من اقتصاد السوق. فالحزب الشيوعي، ولجنته المركزية، تمسكان بزمام الأمور بطريقة مختلفة عمّا فيه طرق الحكم في الغرب.
ليس معنى ذلك أن الاختراق الاستخباراتي للصين مستحيل، بل أحياناً ما تكون القبضة الحديدية في الحكم سبيلاً لتسهيل اختراقها استخباراتياً. وتدرك بكين ذلك على ما يبدو، لذا لجأت الحكومة، منذ العام الماضي، إلى تشديد القيود على التواصل مع الغربيين، وحتى شركاتهم العاملة في الصين. ولا يقتصر حظر التعامل مع أي وسيلة جمع معلومات أجنبية على المسؤولين، والسياسيين، والموظفين الحكوميين عموماً، فقط. بل امتد ليشمل الأكاديميين والباحثين في الجامعات وشركات الاستشارات، وغيرها.
وحسب تقارير متعددة في الأشهر الأخيرة، تشكو السفارات الغربية في بكين من أنها لم تعد قادرة على الحصول على معلومات، أو حتى آراء من الصينيين، لتتمكن من رفع تقارير تساعد صانع القرار في بلادها. وداهمت الشرطة الصينية مقار شركات استشارات أجنبية، وصينية تعمل لمصلحة شركات عالمية، منها ما يحتاج إلى المعلومات لتقديم المشورة للمستثمرين.
كل ذلك ربما يجعل تجسس الغرب على الصين أصعب من تجسس الصين على الغرب. ولهذا، نشهد تلك الأخبار المتزايدة بكشف عملاء للصين أو محاولات اختراق نظم معلومات في دول غربية.