في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بدأت حركة انزياح مفاهيمية كبرى، تراجعت معها الكثير من القيم التي سادت العالم خلال فترة الحرب الباردة (1945-1990)، ونشأت بشكل متسارع تصوّرات جديدة، جرت لها عملية ترويج واسعة، لم تكن منطقتنا العربية بمنأى عنها، فقد دخل مفكرون عرب على خطّ هذا التحوّل، مبشرين بالمفاهيم الجديدة، التي نشأت بقوة العولمة، التي قادتها ثورتا التقنية والاتصالات، وبدا أن عالماً جديداً يتشكّل من رحم نهاية عالم قديم، ينتصر للإنسان في كلّ مكان على كوكبنا، بغضّ النظر عن مكان وجوده في خارطة العالم، ويدفع للاعتقاد بأن الحدود الفاصلة بين البشر توشك على الانمحاء، وأن البشرية ستتشارك إلى حدّ كبير قيماً جديدة.
ذلك الصعود المفاهيمي، ظهر وكأنه تبشير بنهج جديد، يتجاوز الأيديولوجيات والمصالح القديمة، ويقيم نهجاً جديداً، قوامه الإنسان/ المواطن العالمي، الذي يستمد قيمه وحياته من ولادة عصر عابر للقارات والقوميات والحدود الوطنية. فالتكنولوجيا الجديدة، التي راحت تلغي المسافات بين الحدود، وتقيم روابط سريعة ومكثّفة بين البشر، ولّدت معها وهم تجاوز المفاهيم الراسخة في العلاقات الدولية، مثل الجغرافيا السياسية، والتطوّر التاريخي الخاص، والصراع الطبقي، وخصوصية النخب، ودور الثقافات المحلية في تحديد بنية وشكل السلطة، والاكتفاء الاقتصادي الذاتي، وغيرها من المفاهيم، وفي مقابل هذه الحزمة الراسخة من المفاهيم، نشأت مفاهيم عولمية مناقضة، بالتناغم مع صعود دور الرأسمال المالي، وحركته التي تتخطى الحدود الوطنية، وتغذيته لدورات اقتصادية، تقوم بالأساس على ضرورات ومصالح خاصّة بالنخب العولمية الجديدة، التي تراجع البعد القومي في حساباتها، بكل ما يحمله هذا البعد من مقوّمات وضرورات.
في إطار الصعود السريع للعولمة، شهدت أوروبا الشرقية تحوّلات سياسية اقتصادية، نقلتها من تموضعها السابق في الفلك الاشتراكي والتخطيط الاقتصادي المركزي الموجّه، إلى اقتصاد السوق الليبرالي، ونشوء سلطات سياسية أقرب إلى أمريكا والغرب، وقد عدّ بعض المحللين هذا التحوّل في أوروبا الشرقية التحاقاً بقطار الحرية، ودخول عصر الديمقراطية، والتعددية السياسية، لكن في واقع الأمر، لم تتطوّر اقتصادات هذه الدول، بل تفككت بناها الصناعية، لمصلحة شكل اقتصادي جديد، تلعب الخدمات فيه دوراً كبيراً، أي أن هذا التحوّل، كان بلغة الاقتصاد نفسها تراجعاً، كما نشأت بنى سياسية وإدارية قائمة على شبكات المحسوبية والفساد، واستفادت هذه البنى الجديدة من النظام الديمقراطي، لترسيخ مكانتها، على حساب فئات واسعة من المواطنين، لم تتحسّن أوضاعهم المعيشية، كما كان يأمل أفرادها، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار منظومة الدول الاشتراكية الشرقية.
سمحت التطوّرات العولمية، بصعود سريع للصين تكنولوجياً وصناعياً ومالياً، فقد تمكّنت الصين من تشكيل نموذج خاص يقوم على الإبقاء على سيطرة الحزب الواحد، والأيديولوجيا الاشتراكية، مع توسّع الإنتاج الرأسمالي، وتحويل الصين إلى «مصنع العالم»، لإنتاج السلع الرخيصة، التي تخلّت الولايات المتحدة والغرب عن تصنيعها، في صفقة لإدارة سوق العمل العالمية، لكن سرعان ما توضّح أن النمو الصيني السريع لن يكون من دون طموحات وأثمان سياسية، إذ لا يمكن إبقاء الفوائض المالية الصينية خالية من طموح سياسي عالمي، كما لا يمكن للقادة الصينيين أن يضمنوا رسوخ المكانة الجديدة لبلادهم من دون الانخراط في اللعبة الإمبراطورية، وأن يكون لديهم تصوّرات وخطط مطابقة للدور الإمبراطوري، وهو ما تظهره «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، بوصفها الاقتراح السياسي والاقتصادي المطابق لطموحات الإمبراطورية الصينية الجديدة.
منطق العولمة الجديدة، الذي فرد بضاعته المفاهيمية في سوق المفاهيم، بوصفها مفاهيم جاذبة للكثير من الشعوب التوّاقة للحرية، اصطدم مع الوقت بالمصالح المتضاربة في سوق العمل الدولي، وأعاد إحياء المصالح القومية، على وقع إنذار كبير بخسارة الموقع الريادي للغرب، فالاستثمار الأمريكي القومي الهائل في القرن الماضي، لا يمكن وضعه في خدمة مصالح شركات عابرة للقارات، قد ينتهي المطاف به، في خدمة ولادة إمبراطورية صينية، وسرعان ما عادت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في المخاطر التي نشأت عن التوجّهات العولمية التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، والارتداد إلى منح العناصر القومية الأهمية والمكانة المطلوبتين لإبقاء الإمبراطورية الأمريكية في موقع الريادة العالمية.
في الأعوام القليلة الماضية، وبشكل متسارع، عادت بقوة أهمية بعض المفاهيم التقليدية/ الكلاسيكية في العلاقات الدولية، وفي مقدمتها الجغرافيا السياسية، والمصالح القومية، والاكتفاء الذاتي، وغيرها من المفاهيم، التي شهدت حالة انزياح لمكانتها مع موجة العولمة، فقد أظهرت جائحة كورونا، أن تخلّي الغرب عن بعض الصناعات الضرورية وطنياً بحجّة عدم مردوديتها الاقتصادية لمصلحة الصين، لم يكن خياراً صائباً، كما أظهر التقدم النسبي لمشاريع «مبادرة الحزام والطريق» أن هذا المشروع الاقتصادي قابل للتحوّل إلى مشروع ربط جغرافي-سياسي، وكذلك الحرب الروسية على أوكرانيا، أوضحت مكانة الفكر الجيوسياسي في الصراعات الإقليمية والدولية.
كما بدا واضحاً أن سياسات الانفتاح الأوروبية تجاه حركة الهجرة من الشرق الأوسط وإفريقيا، تحمل معها مخاطر تحولات اجتماعية وسياسية، قد يكون من الصعوبة بمكان التعاطي مع نتائجها، خصوصاً صعود اليمين المتطرّف، في الوقت، الذي تراجعت فيه بحدّة المفاهيم العولمية، والأمل بتحويل العالم إلى قرية واحدة، يبدو أنه يخلي مكانه لعالم يعيد بناء الجدران بين القوميات، ويرسّخ الحدود بين الجغرافيات والمجتمعات.