الحاضر يوجه الماضي

00:12 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يتأسس فهمنا للتاريخ على رؤيتنا للحاضر، فموقفنا من الراهن هو ما ينعكس على قراءتنا للماضي، وليس العكس، كما يعتقد البعض. فمهما اكتسب التاريخ من قوة وتأثير في عقول الأحياء، فإن متغيرات الواقع هي من تحدد تعاطيهم مع التاريخ.

يظهر ذلك جلياً وبشكل واضح في المناهج والأدوات والرؤى التي استخدمها المعاصرون في أطروحاتهم التاريخية، فعندما يُخضع أحدهم مسار التاريخ للعامل الاقتصادي، فإن ما يحركه ليس ما حدث في الماضي، لكن إيمانه بهذه النظرية الاقتصادية أو تلك. وسلسلة القراءات اليسارية للتراث التي لا تبدأ من أعمال عبد الرحمن الشرقاوي ولا تنتهي بحسين مروة، خير دليل على ذلك، والأمثلة الأخرى تتعدد، منها من فسر التاريخ وفق صراعات القوى الاجتماعية، وهناك من منح المناخ البطولة في حركة التاريخ، وكلها أفكار وقضايا رهينة الحاضر ولم يعرفها القدماء، ولم يستخدموها في قراءاتهم للتاريخ، والذين لم ينتجوا آنذاك إلا التاريخ الحولي وفق السنين وكان القادة والزعماء هم أبطال كتب التاريخ، وإن ذكر أحدهم ظاهرة اقتصادية أو حدث مناخي أو كارثة، فعلى هامش تتبعه للأحداث، الأمر الذي يؤكد حقيقتين، الأولى أن رؤيتنا الراهنة للتاريخ حديثة، ربما نجد لها جذراً بعيداً عند ابن خلدون، عندما تناول بعض المؤشرات الموضوعية التي تحكم حركة التاريخ، والثانية أن الموقف من الماضي يتحدد بناء على التعاطي مع الحاضر، كما سبق وأشرنا في البداية.

لا يقف الأمر عند المناهج والأدوات والرؤى في التعاطي مع التاريخ، ولكن كل معاركنا على أرض التاريخ: سياسية وثقافية وأدبية، هي نتيجة لجدلنا حول قضايا الحاضر، أي أن الراهن هو الأصل في الحوارات والنقاشات العديدة حول التاريخ، فعندما يعود أحدهم إلى الماضي لتحليل بنية العقل العربي، فإن هذا العقل هو من يعيش مآزق الحاضر، ولذا لا بد من الرجوع إلى الوراء لبحث جذور هذه الأزمة، ولكل من يعاني ثبات الأوضاع لا بد أن يرتحل في تراث ممتد ليقول إن فكرة الثبات كانت مهيمنة دائماً علينا، وقس على ذلك من نظّر إلى فكرة الأمة العربية، ومن انتقد التشرذم العربي..لقد وجد الاثنان في حوادث التاريخ ما يؤيد وجهة نظر كل منهما، وصولاً إلى تجارب التجديد في الأدب والشعر، فهناك من بحث عن جذور المسرح وقصيدة النثر والرواية في التراث القديم..إلخ.

ويفرز هذا الزخم أحياناً مفارقات عدة يقف أمامها البعض طويلاً، منها أن بعض الآراء المتناقضة تعتمد في دعم وجهة نظرها ربما على الواقعة نفسها، يقرأها هذا ناحية، ويتمعن فيها ذلك من ناحية أخرى، ليخرجا بنتيجتين متناقضتين، ما يدفع إلى الحيرة، بل وإلى الشك في الواقعة نفسها، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن الحاضر هو الذي يسير التاريخ ويحركه، ولا توجد أي حيرة في النموذج السابق، فهذه القراءة اعتمدت على تقنيات وأدوات تختلف عن تلك التقنيات والأدوات في القراءة الثانية فاختلفت النتيجة، ما يؤكد مرة ثالثة أن الحاضر هو من يوجه رؤيتنا للماضي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/52j3kkp7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"