تحدّيات «اليوم التالي» في غزة

00:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

بالرغم من غياب أي تصوّر واضح لتوقيت وقف الحرب الإسرائيلية على المدنيين في غزة، إلا أن سؤال «اليوم التالي»، لم يغب عن الحراك السياسي، الدولي والإقليمي، حول مستقبل غزة بعد الحرب، حتى أن الأمرين، وقف الحرب، ومستقبل القطّاع، يبدوان كأنهما تؤام النقاش السياسي والديبلوماسي الدائر، إذ إنه كلّما مرّ وقت إضافي على هذه الحرب، كلما كان بالإمكان افتراض سيناريو مختلف لمستقبل المدينة المدمّرة، وهو بالضبط، ما يرمي إليه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية، عبر رفضه الوصول إلى تسوية ما لوقف الحرب، قبل إحراز ما يعتبره «انتصاراً مطلقاً»، بحسب توصيفه لمغزى «العمليات العسكرية».

لدى نتنياهو تصوّر محدّد، مفاده أن ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هو فرصة لا تعوّض، وينبغي ألا تعوّض، للقضاء، ليس على «حماس» فقط، بل أيضاً على كل ممكنات النهوض داخل قطاع غزة، لسنوات وربما لعقود، وأن تفويت هكذا فرصة، يتناقض مع المصالح الاستراتيجية لإسرائيل، كما أن لنتنياهو مصلحة شخصية في إحراز نصر ساحق، تجعله يتحوّل من زعيم سياسي مُلاحق قضائياً، ومتّهم بالفساد، إلى بطل قومي، وزعيم أوحد، ورمز لا يمكن النيل منه، وقد أوجد نتنياهو ذريعة سياسية لاستمرار حربه، من خلال اعتباره أن «أي حديث عن اليوم التالي في غزة بوجود حماس هو كلام بلا معنى»، وبالتالي، فإن المطلوب من وجهة نظره أن يكون «اليوم التالي» من دون «حماس»، لإلغاء أي تهديد لدولة إسرائيل، لكن في واقع الأمر، فإنه يمضي قدماً لتدمير كلّ المقوّمات الإنسانية في القطاع.

في مقابل هذه السياسة الصفرية التي يتّبعها نتنياهو، كان هناك ردّ عبر المقترح الإماراتي في الجمعية العامّة في الأمم المتحدة، للاعتراف بدولة فلسطين، والذي حظي بإجماع كبير. وعلى الرغم من الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، إلا أن مجريات هذا الحراك الديبلوماسي، تطرح سيناريو آخر، بعيد عن الصفرية، بحيث يكون بالإمكان المضي قدماً بمشروع حلّ الدولتين، لتحقيق نوع من الإنصاف للقضية الفلسطينية، يجعل من مقولة السلم والسلام الإقليميين، ذات معنى، يمكن العمل على تشكيله مستقبلاً، لبناء منظومة أمن واستقرار في المنطقة.

عبر سياسات نتنياهو الحالية، فإن ما يصبح بلا معنى في الحديث عن «اليوم التالي»، هو سيناريو انتهاء الحرب، بعد أن تكون غزة قد أبيدت بشكل شبه كامل عمرانياً، وأصبح معظم سكانها في العراء، تحت مظلة الجوع والأوبئة، وهو الأمر الحاصل حالياً، مع منع تدفق المعونات الغذائية والطبية المطلوبة، وتوقف التعليم والطبابة، وغياب معظم الخدمات المعيشية. لكن كل هذه الأمور الكارثية، ستصبح بعد انتهاء الحرب واقع حال يومياً لفلسطينيي غزة، إذ إنه ليس بمقدور أي عملية إعادة إعمار، مهما كانت مؤهلة، من حيث التمويل والتنظيم والعمل، أن تنهض بإعمار غزة إلا بعد سنوات، ومن دون أية ضمانات بحدوث حالات توقّف، أو تعطيل متعمّد.

في داخل إسرائيل نفسها، ليس هناك توافق على تصوّر سياسي محدّد حول الوضع السياسي والإداري لغزة بعد الحرب، ويبدو أن المسألة الوحيدة التي تحظى بالإجماع هي ألا تكون «حماس» موجودة في هذه العملية، لكن يفترض أن مثل هكذا تصوّر يطرح بديلاً سياسياً وإدارياً، مقبولاً وواقعياً، أي أن يحظى بتوافق فلسطيني أولاً، وإقليمي ودولي ثانياً، وأن يكون قابلاً للتطبيق من الناحية العملية، وأن تكون هناك ضمانات إسرائيلية، لعدم الانقلاب على أي تفاهم سياسي بخصوص «اليوم التالي» في غزة، والدفع بإعادة تأويله، أو عرقلته، كما جرى، مرّات ومرّات، بعد «اتفاق أوسلو» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993.

أمريكا، أقرب حليف وداعم لإسرائيل، تتّهم نتنياهو شخصياً، بأنه «يفتقد لأي تصوّر سياسي لإدارة غزة في اليوم التالي»، كما يتّهم يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي نتنياهو بأنه يدفع نحو إعادة احتلال غزة عسكرياً بعد انتهاء الحرب، ويعدّ ذلك «مكلفاً لإسرائيل من النواحي كافة»، وبالتالي، فإذا كان سيناريو إعادة احتلال غزة مرجّحاً في «اليوم التالي»، فإن هذا السيناريو هو الوصفة المثالية لوأد أي حلّ سياسي ممكن، ليس في غزة فقط، بل لمجمل القضية الفلسطينية، وهو في الوقت ذاته، يحتّم على إسرائيل أن تبقى كدولة تحيا وتعيش من خلال الحرب، وعبر الحرب فقط.

إن مجمل الأفكار التي يجري تداولها حول «اليوم التالي» في غزة، تقع كلّها في المطبّ ذاته، المتمثّل في الخضوع للجزئي، وتأجيل الكلّي، وعدم الاعتراف بحقائق دامغة، لا يمكن القفز فوقها، إذا أراد المجتمع الدولي أن يكون «اليوم التالي» مقدمة للاستقرار، وليس لحرب جديدة. فمن بداهة الأمور أن إسرائيل تتحمّل مسؤولية أساسية عن الأوضاع في غزة، قبل عملية «السابع من أكتوبر»، بوصفها دولة احتلال، وأنها تتحمّل مسؤولية أساسية في إضعاف السلطة الفلسطينية، من خلال التنصّل المستمر من الاتفاقات المبرمة، وبالتالي، فإن «اليوم التالي» سيبقى معلقاً في الفراغ، إذا لم تتحقّق له أرضية سياسية، تنطلق من الاعتراف بأن تصميم مستقبل غزة جزء لا يتجزأ من تصوّر دولة فلسطينية مقبلة، وقابلة للحياة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrxwy4sy

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"