السؤال الرئيسي الذي تطرحه الموافقة الأمريكية لأوكرانيا، باستخدام الأسلحة المقدّمة من واشنطن، لضرب أهداف داخل روسيا، والتي أتت بعد موافقة مماثلة من دول غربية، هو: ما دلالات هذا التصعيد الأمريكي/ الغربي، وأهمية هذه الخطوة، التي كانت محظورة لأكثر من عامين؟
في حسابات موسكو، قبل بدء الحرب، أن اجتياح أوكرانيا، والوصول السريع إلى كييف، سيرسّخ وضعاً على الأرض، بمنزلة أمر واقع، لن يسمح لأوكرانيا والغرب بتجاوزه، خصوصاً أن كفة الميزان العسكري في ذلك الوقت، كانت راجحة لمصلحة موسكو، في جميع المستويات العسكرية، مع تفوّق روسي نوعي، يتمثّل بالقدرات النووية التكتيكية والاستراتيجية، وبناءً على فرضية موسكو، المؤسّسة على رجحان الكفة العسكرية لمصلحتها، اتّخذت قرارها بالاجتياح البرّي السريع، الذي صاحبته ضربات جوية كثيفة، لشلّ قدرات الخصم، ومنعه من القيام بأي مبادرة دفاعية ذات جدوى.
وعلى الرغم من تحقيق موسكو تقدّماً أوّلياً في الجغرافيا الأوكرانية، إلا أن الخطوة الروسية، التي كان من المفترض أنها تحمل إلى حدّ كبير سمة المباغتة، كانت، وبحسب ما ظهر لاحقاً، أنها كانت موجودة في السيناريوهات المفترضة من قبل حلف الأطلسي، وفي مقدّمته، الإدارة الأمريكية، حيث إن بضعة أسابيع قليلة، بعد الاجتياح العسكري الروسي، كانت كفيلة، بإظهار مستوى التنسيق الأوكراني الأمريكي بشكل خاص، ما دفع القوات الروسية للتراجع، وجعل خطة الوصول إلى كييف، وتغيير نظامها السياسي، أمراً غير واقعي، وتحديد جبهة المعارك لأمد طويل في شرق أوكرانيا، التي أصبحت من الناحية العملية أرض المعركة البرّية بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية، وتحييد باقي أوكرانيا عن الحرب إلى حدّ كبير.
استخدم الغرب سلاح العقوبات التكنولوجية والاقتصادية والمالية والدبلوماسية ضد موسكو، كما جمّد الأصول الروسية في الغرب، وتوقّف تصدير النفط المباشر من روسيا إلى القارة الأوروبية، وهذه الاستراتيجية، التي تتخّذ من العقوبات وسيلة لاستنزاف الخصم، كان لها مفاعيل سلبية بكل تأكيد على موسكو، لكن قياس مستوى تأثيرها يختلف من نظام سياسي إلى آخر، ومن منظومة اقتصادية إلى أخرى، وقد تمكّنت موسكو من امتصاص الكثير من التأثيرات لهذه العقوبات، خصوصاً في مجال الطاقة، حيث اتجّهت شرقاً نحو الصين، التي أصبحت المستورد الأكبر للنفط الروسي، في الوقت الذي تحاول فيه أوروبا تعويض احتياجاتها النفطية من مصادر بديلة عن النفط الروسي.
في الداخل الروسي، أضافت الحرب سبباً آخر لبقاء الرئيس فلاديمير بوتين في سدّة الحكم، وقد حاز أعلى نسبة تصويت من قبل الناخبين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وصلت إلى 88% من أصوات الناخبين، وبغضّ النظر عن الانتقادات الغربية المستمرّة للنظام السياسي والانتخابي في روسيا، إلا أنه كان يصعب تصوّر وجود منافس حقيقي لبوتين في ظل حرب، كان هو نفسه من أعطى إشارة انطلاقها، كما أن تسريع العلاقة وتمتينها وتشبيكها أكثر مع الصين، عوّض عن الصادرات الغربية لروسيا، بسلع صينية ذات جودة معقولة، وبأسعار تنافسية، كما أعاد دعم الكثير من الصناعات الروسية، التي كانت قد أخلت مكانها لمنافستها الغربية.
في حسابات موسكو، وفي فلسفة صانع السياسات في الكرملين، فإن ثبات قواعد الاشتباك في شرق أوكرانيا، وعدم حدوث تحوّلات عسكرية كبيرة فيه، ليس أمراً سيئاً بالمطلق، فقد يكون في بعض جوانبه، أمراً جيداً بالنسبة لموسكو، خصوصاً بعد إحرازها مستوى من التكيّف السياسي والعسكري، بل إنه يمنح الكرملين مزيداً من مركزة القرار الداخلي في يده، وفي يد الرئيس بشكل خاص.
في الضفة المقابلة، يشعر القادة الأوروبيون بأن استمرار الحرب، والمحافظة على حالة الثبات في قواعد الاشتباك الحالية، أمر مرهق ومكلف بالنسبة للميزانيات الغربية، وأن استمرار هذه الحرب بصيغتها الراهنة، يدفع نحو المزيد من الاستنزاف المالي، في الوقت الذي تعاني فيه معظم الاقتصادات الأوروبية من أزمات عديدة، في مقدمتها أزمة التضخّم، التي أصبحت مرهقة بالنسبة لمؤسسات الرعاية الأوروبية، وعبئاً على الميزانيات الحكومية، في الوقت الذي تزداد فيه حدّة المنافسة الصناعية مع الأٍسواق الآسيوية.
الخطوة الأمريكية والغربية بالسماح لأوكرانيا باستخدام التكنولوجيا العسكرية المقدّمة لها من دول حلف «الناتو»، لضرب أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية، بحجة الدفاع عن خاركيف، يهدف إلى تصعيد الصراع مع موسكو، لدفعها نحو التفكير جدياً بالمضي نحو تسوية سياسية مع كييف، وتقديم تنازلات بما يخصّ الأراضي التي أصبحت تحت سيطرتها، لكن، مثل هذه الانعطافة الغربية الخطرة، هي شكل من أشكال المغامرة العسكرية والسياسية، لأنها قد تدفع نحو تصعيد روسي نوعي، يتمثّل باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، وهو ما أشار إليه سابقاً أكثر من مسؤول روسي سياسي وعسكري، وهو ما أعاد الرئيس بوتين تأكيده في الجلسة الافتتاحية في منتدى بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، حيث قال: «الأسلحة النووية صُنعت لضمان أمننا بالمعنى الواسع للكلمة ووجود الدولة الروسية».
مع كل ما أنتجته هذه الحرب من كوارث وأزمات، لكن ما قد تتجّه نحوه، قد يجعل من تلك الكوارث والأزمات مجرّد تفصيل ثانوي أمام هول ما قد يحدث.