زهرة تبكي على شاعر

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

طلع زياد العناني من جبال وأودية ناعور مثل زهرة دحنون أو شجرة سنديان، والأرجح أنه في كثافة روحه المندفعة كلياً إلى الحياة، كان أقرب إلى تلك الشجرة، وفيه أيضاً شيء من تكوين ثمرة جوز الهند، قاسية صلبة من الخارج، ومن الداخل تحتفظ بذلك الماء الحميم الذي يحبه الطفل، لكن الطفل الذي يحمل وهو في أحشاء أمّه تلك البشارة الرائعة التي اسمها: الشعر.

إن مكان زياد الطفولي، مسقط رأسه وأوّل نهوضه المبكر باتجاه الشمس، هو مكان شجري. جغرافية أردنية خضراء ترتدي شرشف ضباب هو مرة ثانية: الشعر، لكن هذه الهدية الاستثنائية للشعر، الهدية التي هي زياد، لم تعمّر مثل السنديان، ولم يطل به الوقت، واقتطعت الحياة حوالي عشرة أعوام من عمره وهو متعب، لكنه لم يكن مكسوراً، فليس من السهل عليك أن تكسر جوزة، أن تنشر ساق سنديانه إلا بصعوبة مطلقة.

لم يكن زياد العناني صلباً أو حجرياً في قصيدته وحتى في حياته. كان أقرب إلى طبيعة الماء، وإلى الآن، ترنّ ضحكته البدوية الخشنة في الأرجاء والأمكنة التي عرفته فيها، كما وإلى الآن أذكر جيداً (عينيه).. تلكما العينان الطيّبتان، العميقتان، المملوءتان دائماً بالفرح الوردي الأبيض كلما اقترحت عليه أن نذهب في جولة بسيارة إلى ناعور، وحين أجد قابليته مرنة أكثر، اقترح عليه أن نذهب إلى مأدبا، عن طريق تلك القرى الأردنية الوادعة جنوب غرب عمّان، ومنها قرية حسبان إن لم تخنّي ذاكرتي، ومن فوره كان يعبّئ سيارته الصغيرة البيضاء بالبنزين ونتزوّد أنا وهو بالقليل من الطعام، والكثير من الضحك.

كانت ضحكته رائعة، لم تكن ضحكة طفل كما يحلو للشعراء قول ذلك، بل كانت ضحكة رجل في ذاته وفي كينونته سؤاله الوجودي الكبير، ولم يكن بالمناسبة سؤالاً فلسفياً، بل هو سؤال الحياة. حب الحياة بلا حدود صغيرة تافهة. إلى ناعور، إلى ناعور، إلى مأدبا إلى مأدبا، ولو قلت له: إلى العقبة، فإلى العقبة، هكذا بلا مقدّمات، وبلا تردد. دائماً كانت عنده نقطة في آخر السطر.

بسيط، شعبي، أخوي، في ثلاثة اختصارات، وإذ كان يعلم أن الفرح موجود دائماً في الهواء الطلق، كان، إذاً، يحرّك سيارته ويقود إلى هناك. لم أذكر هذه التفاصيل الحارّة الصغيرة من فراغ، بل لأقول إن هذه التفاصيل الحياتية اليومية وأغلبها كانت تجري في الظهيرة أو عند العصر وحتى هبوط الليل (هبوط غريب وحيد على رأس سنديانة) أقول إن تلك الحياة هي بالضبط كلها كانت قصيدة زياد العناني، أجمل أصدقائي في الفترة التي أمضيتها صحفياً في جريدة «الدستور» الأردنية من 2005 وحتى 2007، وكان هو آنذاك يرأس القسم الثقافي في جريدة «الغد»، وصنع فيها ذلك الوقت وقتاً ومكاناً رائعين لمعنى الصحافة الثقافية التي كان يغذّي مهنيتها بروحه الشعرية.

شاخت شجرة السنديان، وتحتها بالضبط زهرة حمراء تتساقط منها دموع.. هل رأيت في حياتك زهرة تبكي على شاعر؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2b5baa62

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"