البحر الميت وما يعنيه من حدود وجبال وتفاصيل وقصص وتأملات خيالية على امتداد أكثر من دولة.. على ذلك الامتداد انطلقنا، في يوم خصص للتعارف الاجتماعي بين أعضاء الوفد الرسمي الذي حضرت معه، لاجتماع ما. كان الحديث الممتد لساعات وأنا ممتلئة طاقة منعشة من هذا المكان ومن الحلم الذي أقترب منه.
خيالي كان محدوداً منذ عقود، ولكن قلبي كان مؤمناً منذ طفولتي أنه مكان سأزوره وسيترك فيّ أثراً مخيفاً ومريحاً في آن، هناك في قصة الأنباط، في بدايات القرن السادس قبل الميلاد، ودخولهم في شبه الجزيرة العربية، وكما يقال ينتمون إلى نبط بن إسماعيل عليه السلام. ومن كتب الخط النبطي، في التاريخ المختصر ستجد البدايات الجميلة، التأسيس، والرقي، الثراء ومن ثم الزوال. فلا تدرك كلما انتهت قصة، أين مثلها يبدأ التاريخ مرة أخرى، لكنه درس مكرر.
امتدت الرحلة لنصل إلى عاصمة دولة الأنباط ومركزها الاقتصادي، إنها الحلم إنها «بترا».. مدينة تشبه مكة، تشبه حياة العرب الممتدة بيوتهم على ارتفاعات مختلفة فوق الجبال، شوارع تصعد وتنزل وحياة بدوية وعصرية. لم نطل الانتظار، من متحف «بترا» وقصتها انطلقنا، ولم أكن بعد أدرك نفسي إلا وقدماي تمشيان على أرض حضارة عظيمة، رجال ونساء تخيلتهم في أبهى حلة وملابس وألوان زاهية، رغم أني لم أرَ صوراً لهم أو ما يمثل حياتهم اليومية، لكني مشيت في ممر طويل يشبه الأخدود الممتد للسماء، وكأني أعيش في داخلي ذلك الوقت، حين طرقت أقدامهم اليابسة القاحلة فتحولت معهم في آلاف السنين إلى أرض معمرة زاهية مثقفة.
تمشي في ذلك الامتداد العالي للسماء، وهو يتلوّن بلون الذهب مع شعاع الشمس، ويملؤك الهدوء وتعتلي نفسك موجة باردة من الطمأنينة والسكون وتقول «سبحان الله».
طاقة لا أنكرها، أحسست بالعظمة، بالهيبة وكأنّي تخيلت وجوهاً مضت هنا، وكأني رأيت رجالاً شقوا الصخر والجبل، وهي الحقيقة الممتدة للأبد.
كانت الألوان مبهرة وآسرة تغيرت وتجملت مع تغييرات عوامل التعرية، ولكنها حافظت على أثر من رحل. مضيت وأنا أرى كل أثر، لأنابيب المياه، وفكرهم الهندسي، للمساحات المفتوحة فجأة، لكل شيء حتى التقت عيناي أجمل بوابات تلك الحضارة «الخزنة»، كل ما رأيته في طفولتي من صور وتعلمته يتجسد أمامي، فلم أدرك إلا وأنا أقول مرات مرات، «سبحانك يا الله كيف علمت البشر»، وكيف كانوا عظماء؟!.
التاريخ درس كبير، كانوا مثقفين وكانوا أهل ثراء، ممالك ومسارح وبيوت وتجارة وغنى، لكنهم اختفوا بعد الاحتلال وزالت أهميتهم، وبعد آلاف السنين اختفت تفاصيلهم، كيف ومتى؟ لا أحد يدري، طُمست مدينتهم، وظهرت للعالم في الدرس الأكبر «كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام».
https://tinyurl.com/5breew3t