بلفور وما بعده.. سيناء ومستقبلها!

00:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

بقوة الوثائق استهداف مصر هو صلب التفكير الاستراتيجي الغربي المؤسس ل«وعد بلفور»، بمقتضى نصه فإن الحكومة البريطانية تلتزم ب«إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وأنها سوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف».
كان ذلك هو الوجه المباشر للوعد، الذي وقعه وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 في كلمات معدودة وقاطعة أرسلها إلى اللورد جيمس روتشيلد، غير أن ظاهر النص لا يخفي ما وراءه من حسابات وترتيبات تتعلق بصميم وحجم ما يمكن أن تلعبه مصر من أدوار.
وفق عشرات الوثائق البريطانية لم يتأسس «وعد بلفور» على أسطورة «العودة إلى أرض الميعاد»، لكنه وظفها لمقتضى رؤية استراتيجية لمستقبل العالم العربي- مصر بالذات وبالتحديد.
في مذكرة تلقاها رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج -بعد أربع سنوات من إعلان «وعد بلفور»- اقترح مدير العمليات في الشرق الأوسط الكولونيل ريتشارد ماينر تزهاجن: «ضم سيناء إلى فلسطين» حتى يكون ممكناً «وضع حد فاصل».
المذكرة- التي رفعت إلى رئيس الوزراء عبر الجنرال اللنبي، رأت في مثل هذا الضم تأكيداً قوياً لمركز بريطانيا بالشرق الأوسط.
لماذا نزع سيناء عن مصر؟ولماذا ضمها إلى فلسطين، الوطن اليهودي الموعود؟
تقول المذكرة «إن ضم سيناء يوفر اتصالاً سهلاً بالبحرين المتوسط والأحمر وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق مع ميناء حيفا الممتاز، الذي سنستعمله بموافقة اليهود»، وأن «من حسنات هذا الضم أنه سيحبط أي محاولة مصرية لإغلاق القناة في وجه ملاحتنا، كما سيمكننا من حفر قناة جديدة».
بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل فهذه تبدو وكأنها تصور مستقبل أكثر منها مذكرة مكتوبة لرئيس وزراء بريطانيا سنة 1921.
بلغة الوثائق، ولا شيء غيرها، يمكن استنتاج أن الفلسطينيين دفعوا ثمناً مروعاً لاستهداف مصر.
لم يكن كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن جراحات في خرائط الشرق الأوسط تهويماً في فراغ الاستراتيجيات، أو تفلتاً لفظياً بلا أساس، إنها قصة طويلة من الصراع على المنطقة.. سيناء ومستقبلها.
بكلام موثق فإن الرؤية الاستراتيجية المؤسسة ل«وعد بلفور» تعود إلى الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت، الذي أكسبته حملته على مصر وإطلالته على المشرق العربي نظرة للمستقبل وما يجب تبنيه من سياسات تمنع ذلك البلد المحوري من أن يمثل قوة ضاربة في الإقليم تغير معادلاته وتضر بالمصالح الفرنسية الغربية عموماً.
تبدت أمامه «الورقة اليهودية» حلاً ممكناً لمعضلة تحجيم مصر، التي كان يراها بموقعها الفريد «أهم بلد في العالم»، هكذا بالنص، وأن من يسيطر عليها يتحكم في موازين القوى العالمية، هو أول من تبنى فكرة وطن عازل، لا عربي ولا إسلامي، بين مصر والمشرق العربي.
حفظت بريطانيا الدرس عن بونابرت وطبقت ثقافته الاستراتيجية أفضل من الفرنسيين حتى تكون صحراء سيناء نوعاً من «سدادة الفلين» تقفل عنق الزجاجة المصرية، التي يمثلها وادى النيل (والتشبيه من خطاب لروتشيلد موجه إلى رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون بتاريخ 21 مايو (أيار)1931.
وقد كانت تجربة محمد علي واتساع مدى حركة جيشه بالمشرق العربي وتهديده لعاصمة الخلافة العثمانية داعياً إلى تعاظم المخاوف الغربية من أي صعود مصري جديد يكرر تجربته وسبباً مباشراً لإعطاء زخم متصاعد لاحتواء مصر بعازل مع سوريا.
لم يكن «وعد بلفور» سوى الصيغة التنفيذية لذلك التخطيط، الذي أخذ مداه مرحلة بعد أخرى حتى نكبة عام 1948 وما تبعها من حروب وصدامات وتراجعات أخطرها خروج مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي بعد اتفاقية «كامب ديفيد» نهاية سبعينيات القرن الماضي.
قد يقال -بظاهر نص «وعد بلفور»- إن مفعوله انقضى، فقد أنشئت تلك الدولة منذ 76 عاماً، وأن ما تضمنه من «أنه لا يمثل تحيزاً ضد الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين- قاصداً سكانها العرب» ثبت أنه محض مراوغة دبلوماسية بريطانية معتادة، فقد كان التحيز ضد كل حق عربي وفلسطيني مطلقاً حتى وصل في الحرب الحالية على غزة إلى التواطؤ شبه المطلق.
لم تكن مصادفة تزامن «وعد بلفور» مع اتفاقية «سايكس بيكو»، التي قُسّمت بمقتضاها دول عربية وأنشئت أخرى.
في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ماجت المسارح السياسية الأوروبية بالسيناريوهات والأفكار عن مستقبل العرب، بعضها طرح دولة عازلة يهودية، وبعضها الآخر مال إلى دولة مسيحية عاصمتها القدس من دون أن يكون لهم رأى، أو مشورة.
ولم يكن هناك سر على أحد يريد أن يتابع ويكون له موقف في ما يخص مستقبله لكن عدم التنبه لمكامن الخطر بدا شبه كامل.
لم يعد ممكنا إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط بالقلم والمسطرة على النحو الذي حصل في اتفاقية «سايكس بيكو» بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية تقاسماً للنفوذ في المنطقة العربية قرب تقوض الخلافة العثمانية.
رغم مضي أكثر من قرن على وعد بلفور فإن جوهر الاستراتيجية الغربية بكتل النيران المشتعلة في غزة ولبنان ما يزال ماثلاً في المكان بتحدياته ومخاطره فوق الخرائط العربية المتصدعة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2xynp5e2

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"