د. حســن مــــدن
لم يتوقع الرجل، وهو واقف أمام «فاترينة الأنتيكات» أنه سيجد نفسه يستعيد ذاكرة كل أنتيكة منها. كيف لكل هذا الجماد المحايد على شكل قطع متفاوتة الأحجام، مع غلبة الصغير منها عليها، أن يختزن هذا الكمّ من الذكريات، ذكرياته هو لا ذكرياتها هي، هكذا فكر الرجل، قبل أن يستدرك: ولماذا أصادر من الأنتيكات حقها في الذاكرة؟ الأصح القول: ذاكرتهما المشتركة هو وهي، فلولاها ما كان شلال الذكريات قد انهال في نفسه.
لكل أنتيكة حكاية. لو كان روائياً لكتب فصولاً من سيرته من وحي هذه الأنتيكات، لأن كل واحدة منها تحمل ذكرى. هكذا ما فكّر فيه أيضاً، وهو يقسم ما أمام عينيه من أنتيكات إلى قسمين: أنتيكات اقتناها هو نفسه من محال تبيعها في بلدان زارها أو حتى من مطاراتها، وأنتيكات أهديت إليه.
وتلقائياً راحت صور البلدان التي اقتنى منها ما اقتنى تطوف في ذهنه، ليست البلدان وحدها وإنما أيضاً مدن بعينها فيها له مع التاريخ حكايات. لاحظ مثلاً مجموعة أنتيكات ذات طابع فرعوني اقتناها ذات زيارة له إلى مدينة الأقصر في مصر. ولوهلة توارت الأنتيكات قليلاً لتحضر ذكريات حكايات ومشاوير الأقصر المستقرة في الجانب المضيء من الذاكرة.
عاد الرجل إلى الواقع، إلى حيث يقف يتأمل ما في «الفاترينة»، ليجول بناظريه نحوها، ولحظتها اختبر ما هو على يقين منه، عن مخاتلة الذاكرة، حين تختار أن تغفو، ولكنها غفوة مخادعة، فرؤية «أنتيكة» صغيرة كفيلة بأن توقظها، فتعود بكامل حضورها وبهائها بعد أن خلناها ماتت. توالت في ذهنه صور الأماكن التي وطأتها رجلاه، وكأن رؤيته لها تمت بالأمس، لا قبل سنوات طوال.
انتبه الرجل لحظتها إلى أن ذاكرة أنتيكات القسم الثاني، أي التي أهديت إليه، أكثر وقعاً في النفس. ثمة فرق بين أن تقتني لنفسك شيئاً أعجبك، وأن يهديك أحدهم أو إحداهن شيئاً أراد من خلاله القول إنه يعزّك، وحريص على أن يترك لديك ذكرى تقترن باسمه، مهما كانت بساطتها، فالعبرة في المعنى. وعيناه تجولان بين الأنتيكات – الهدايا راحت قائمة الوجوه تتوالى في ذهنه، ولكل وجه حكايات جديرة بأن تكتب، وتتالت الأسئلة عن تلك الوجوه سواء أقام أصحابها طويلاً أم مروّا سريعاً: أين هم الآن؟ إلى أي مسارات أخذتهم الحياة؟ أما زالوا بالألق الذي كانوا عليه، أم أن الحياة غدرت بهم؟
ما صدم الرجل في غمرة كل هذا، الاختبار القاسي مع الذاكرة الذي وجد نفسه فيه، حين فشل في التعرف إلى حكاية بعض الأنتيكات، وهو يحاول أن يجد جواباً للسؤال المحيّر: من أين تراها أتت لتجد لنفسها مكاناً في الفاترينة؟
[email protected]