«تمرين ديمقراطي» في كوريا الجنوبية

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

قبل أيام وضمن خطوة مفاجئة أثارت الكثير من الجدل والاستغراب داخلياً ودولياً، أعلن رئيس كوريا الجنوبية فرض الأحكام العرفية في كامل البلاد، كسبيل للقضاء على ما أسماه بالتيارات الداعمة لكوريا الشمالية، وللمحافظة على النظام داخل البلاد.
وقد خلف هذا الإجراء المرحلي الذي يحيل إلى تعليق العمل بعدد من القوانين والمؤسسات تحت ضغط التهديدات والأزمات المختلفة، قلقاً كبيراً في أوساط المعارضة التي اتهمها بارتكاب سلوكيات تمس بأمن الدولة، حيث بادر البرلمان (الجمعية الوطنية) إلى عقد جلسة طارئة تقرر خلالها إلغاء الأحكام العرفية. فيما خرجت جماهير حاشدة بالموازاة مع ذلك إلى شوارع العاصمة سيؤول مردّدة شعارات مندّدة بقرار الرئيس، وهو ما دفع هذا الأخير إلى التراجع عن قراره السابق.
تمّ فرض نظام الأحكام العرفية في عدد من المناسبات بالبلاد (مثلا: 1948 و1952 و1961..) ضمن سياقات تاريخية مختلفة، غير أن فرضه في هذه المرحلة التي قطعت فيها البلاد أشواطاً مهمة على مستوى تبني إصلاحات اقتصادية وسياسية مهمة، أثار أسئلة كثيرة حول ما إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ذريعة للتغطية على تراجع شعبية الرئيس وتزايد الانتقادات الموجهة للسياسات الحكومية، أو إجراء ضرورياً فرضته اعتبارات موضوعية متصلة بمصالح عليا للبلد.
لقد حققت كوريا الجنوبية مكتسبات سياسية مهمة تضاف إلى ما راكمته من تقدم اقتصادي وصناعي، فهذا البلد الذي ظل غارقاً في إشكالات عسكرية وسياسية واقتصادية خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي، لم يكن أحسن حالاً من نظيره الشمالي في أعقاب الحرب الطاحنة بين الطرفين، من حيث هيمنة المؤسسة العسكرية على المشهد السياسي، حيث ساد نظام الحكم المطلق وتمت مصادرة الحقوق والحريات، وتمّ التحكم في الإعلام ومنعت التعددية الحزبية على امتداد عدة سنوات.
أولت كوريا الجنوبية أهمية بالغة للتنمية، ومع الإنجازات الاقتصادية الكبرى التي بدأت معالمها تظهر بشكل جليّ خلال سنوات الثمانينات من القرن المنصرم، وتطور المنظومة التعليمية ومخرجاتها، انتعش وضع الطبقة الوسطى، وتنامى الوعي السياسي في البلاد، وبرز فاعلون اقتصاديون وسياسيون جدد، كما حدثت دينامية سياسية ساهمت فيها مختلف القوى داخل المجتمع من عمال وطلاب ومثقفين، وهو ما كان له الفضل في خلخلة المفارقة القائمة بين نظام اقتصادي متطور ونظام سياسي تقليدي متخلّف.
ففي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، بدأت ملامح التحوّل الديمقراطي تتّضح في هذا البلد، رغم بعض الارتدادات التي كانت تحدث من حين لآخر، حيث تم اعتماد إصلاحات سياسية استجابة لضغط الشارع، سواء على مستوى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حملت المعارضة إلى الحكم، أو على مستوى إقرار دستور أكثر تطوراً، وهو ما هيأ الأجواء لترسيخ تداول سلمي على السلطة، وتبادل المواقع بين الأطياف السياسية بقدر من المرونة والسلاسة.
لم يكن تحقيق هذه المكتسبات بالأمر الهيّن في البلاد، ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في إنضاج هذه التجربة الآسيوية، يمكن إجمالها في تزايد الاحتجاجات الطلابية بالبلاد، والتي كان لها أثر كبير في ترسيخ وعي سياسي داخل المجتمع، وتزايد الاستياء المجتمعي من النظم الديكتاتورية التي حكمت المجتمع بقبضة من حديد، واستئثار الجيش بمهام سياسية وازنة مرحلية ساهمت في توفير مناخ للانتقال إلى مرحلة جديدة، علاوة على التأثيرات التي أفرزها المحيط المتغير، في علاقة ذلك بالتحولات السياسية التي شهدتها الفلبين، ثم الاستفادة من مساعدات اقتصادية مهمة قدمتها الولايات المتحدة وعدد من المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية لقاء اعتماد إصلاحات سياسية في إطار الانفتاح على العالم الخارجي والتفاعل مع متغيراته.
وقد أسهم التطور الاقتصادي الذي شهدته البلاد وما رافقه من تحديث للمجتمع، على عكس كوريا الشمالية التي ظلت محافظة ومنكفئة على ذاتها، في بروز نخب مثقفة وقوى سياسية رفعت مطالب بالإصلاح السياسي وتعزيز الحريات، وهو ما كان له الأثر الكبير في دعم التحوّل الديمقراطي بالبلاد.
لا شك أن الأحداث السياسية مرشحة للتطور في البلاد مع الإعلان عن استقالة وزير الدفاع، وتوجه أحزاب من المعارضة إلى التحرك باتجاه عزل الرئيس من داخل البرلمان بعد تراجعه عن فرض الأحكام العرفية بالبلاد. لكن الأمر المؤكد هو أن كوريا الجنوبية تمرّ بمرحلة تمرين ديمقراطي حقيقي لقياس مدى ترسيخ الديمقراطية في البلاد بعد عقود من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ولرصد مدى وعي المواطن وحرصه على المحافظة على مكتسباته، وقدرة مختلف الفاعلين على تدبير الخلافات السياسية بصورة سلمية استناداً إلى المؤسسات وإلى قواعد اللعبة الديمقراطية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/26fj6mcf

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"