تواجه السلطة الانتقالية في سوريا اليوم بعد سقوط النظام السابق عدداً من التحديات، يأتي في مقدمتها بسط الأمن والحفاظ على وحدة البلاد، وحصر السلاح بيد الجيش، ومواجهة انتشار الفقر، وإعادة بناء ما دمرته حرب داخلية طاحنة استمرت أكثر من 14 عاماً وخلّفت وراءها أكثر من مليون ضحية بين قتيل ومفقود. وعلاوة على ذلك كله، يتعين على السلطة الجديدة تسويق سوريا للمستثمرين والداعمين الخارجيين من أجل إعادة بناء اقتصاد منهك وتمويل فاتورة إعادة إعمار قد تصل إلى أكثر من مائتي مليار دولار.
ورغم مشقة كل واحد من هذه التحديات، إلا أن التحدي الأبرز الذي يواجه السلطة الانتقالية اليوم هو النأي بنفسها عن التاريخ الجهادي الذي توصم به، وتطمين الشعب السوري بأن ما هو قادم ليس استبدال حكم أمني علماني بآخر استبدادي إسلامي، وكذلك تبديد المخاوف المحقة لبعض دول المنطقة بأن سوريا الجديدة دولة مسالمة، دولة لا تسعى لتصدير ثورة أو زعزعة استقرار أو فرض أيديولوجيات متطرفة.
وقد سعى الناطقون باسم السلطة الانتقالية في سوريا منذ تسلمهم الحكم إلى التأكيد على قيم التسامح والرحمة والعدل، وقدموا أنفسهم كرعاة لحريات المواطنين الأساسية في الحياة والأمن والتعبير التي حُرم منها الشعب السوري لأكثر من نصف قرن. فقاموا بالدعوة لمؤتمر حوار وطني في شهر فبراير(شباط) الماضي، الذي خرجت من رَحِمِه توصية بضرورة الإسراع بتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور دائم للبلاد. وقد تمخض عن ذلك إعلان دستوري يوم 13 مارس (آذار) الماضي، ربما سرّعت من صدوره الأحداث الدامية الأخيرة التي شهدها الساحل السوري.
ورغم أنه لا يتوجب تحميل هذا الإعلان أكثر مما يحتمل، إلا أن البعض أثار المخاوف بسبب بعض الأحكام التي تضمنها، وخاصة تلك التي تثير القلق من إمكانية الاستئثار بالحكم من قبل سلطة ذات مرجعية دينية وتهميش الأقليات وتركيز السلطات بيد السلطة التنفيذية دون آلية واضحة لتسليمها للشعب. ويبقى الأمل في أن يكون هذا الإعلان، على أهميته، مؤقتاً، وأن يتم العمل قريباً على إعداد دستور دائم للبلاد يعالج بالتفصيل التحديات الأساسية التي سقط النظام السابق بسببها، وتقوم بصياغته لجنة دستورية ممثلة لأطياف الشعب السوري في الداخل والخارج بكافة مرجعياته الإثنية والدينية والطائفية والجغرافية، ويُعرض على الاستفتاء الشعبي العام لإقراره، ويتم بناء الدولة وتحديد هويتها المستقبلية ومؤسساتها على أساسه، ويتصدى للتساؤلات الجوهرية التالية:
{ أولاً: اسم الدولة السورية وعما إذا كان إضافة كلمة «العربية» فيه ضرورياً أم لا في المرحلة القادمة؟ وذلك على ضوء وجود مكوّن تاريخي شعبي غير عربي في سوريا من كرد وتركمان وأرمن وشركس وسريان وداغستانيين ويزيديين وغيرهم، والذي يصل تعداده في بعض الإحصائيات (غير الرسمية) إلى 20٪ من عدد سكان سوريا.
{ ثانياً: ضرورة اشتراط الدستور أن يكون الرئيس مسلماً أو أنه من الأصلح فتح طريق الرئاسة أمام المرشح الأفضل الذي يصوّت له الشعب بغض النظر عن ديانته؟ وفي هذا تماشٍ مع النهج الذي اتّبعته دساتير سوريا الأولى بين أعوام 1920-1950 والتي لم تحدد ديانة الرئيس، وأيضاًِ هدياً بدساتير بعض الدول العربية الأخرى مثل تونس ولبنان.
{ ثالثاً: التوافق على هوية الدولة السورية الحديثة: دينية محافظة أم علمانية متقدمة؟ وهل يتعين أن ينص الدستور الدائم للبلاد على أن ديانة الدولة وهي الإسلام أم تسعى الدولة السورية الجديدة للاحتفاء بكافة مكوناتها على اختلاف توجهاتهم وعقائدهم وإثنياتهم، وتقف على مسافة واحدة منهم تحت سقف المواطنة دون أي اعتبار آخر؟
{ رابعاً: حتمية الإشارة في الدستور الجديد إلى الفقه والشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع؟ أم يسعى الدستور الدائم لتشجيع المؤسسة التشريعية على تبني كافة الأفكار التشريعية الحديثة والانفتاح على تجارب الآخرين مهما كان مصدرها دون تمييز ما دامت تحترم النظام العام وتحفظ الحريات وتحقق تطلعات الشعب السوري في العدل والكرامة والمساواة والنماء والرفاه؟
{ خامساً: شكل الحكم وسلطات الرئيس وضمانات عدم عودة الطغيان إلى سوريا من الباب الخلفي؟ لقد نص الإعلان الدستوري على أن نظام الحكم في سوريا هو نظام رئاسي يتم فيه تركيز الكثير من السلطات بيد رئيس الجمهورية، بما في ذلك تشكيل مجلس الشعب ورئاسة الحكومة وتشكيل المحكمة الدستورية العليا، متعللاً بالمتطلبات الأمنية وصعوبة إجراء العملية الانتخابية في المرحلة الراهنة.
وصرح رئيس اللجنة الدستورية في المؤتمر الصحفي الذي تلا الإعلان، إجابة على أحد الأسئلة، بأنه في النظام الرئاسي لا يجوز لأحد عزل الرئيس على الإطلاق. وهذا أمر يعلم الكثير من الفقهاء الدستوريين أنه غير دقيق، وأنه حتى في الأنظمة الدستورية الرئاسية مثل أمريكا يجوز لثلثي مجلس الشيوخ عزل الرئيس، وأنه في دول أخرى مثل البرازيل وكوريا الجنوبية التي تتبنى دساتيرها النظام الرئاسي أيضًا يكون لمجلس النواب صلاحية عزل الرئيس بمصادقة المحكمة الدستورية كما حصل مؤخراً في كوريا الجنوبية.
هناك طريق ثالث، غير طريقي الطغيان والتطرف، يكوّن نهجاً يليق بسوريا وتاريخها العريق ونضال شعبها البطولي لنيل حريته، ويضع دعائم دولة حديثة قائمة على العدالة الاجتماعية، واستقلال القضاء، وسيادة القانون، والتعددية، وحرية الرأي، ونبذ التطرف، واحترام المجتمع الدولي: دستور يؤسس لدولة سورية حديثة سمحة تحتضن أبناءها جميعاً دون تمييز تحت سقف المواطنة المشتركة وتزرع الأمل في نفوسهم بمستقبل أكثر إشراقاً.