عبد الإله بلقزيز
حين نتحدّث عن معرفة يتبادلُها العرب والغرب: تدور على بعضهما، وتدخل في تكوين موقف كلٍّ منهما تجاه الآخَر، فمن المُبْتَده أنّ عموميّة لفظتيْ العرب والغرب - في استخدامنا - لا تُخْفي ما تحت كلٍّ من الحدّيْن من تعدُّدٍ في التّكوين، بالقدْر عينِه الذي لا تخفي فيه ما يُرتّبه تَعدُّدُ التّكوين ذاك من تعدُّد في نوعيّات المعارف المتكوِّنة داخل كلّ عالمٍ منهما عن العالَم الآخَر. إنّ المسافة كبيرة بين معرفةٍ تُسْتَقى من محض انطباعات سطحيّة عامّة تُمليها علاقاتُ الجوار والاحتكاك اليوميّ، وثانية تَرِدُ من طريق الصّور والأحكام التي تبثّها وسائط الإعلام والتّواصل، وثالثةٍ تأتي من طريق المعرفة الأكاديميّة: الجامعيّة والبحثيّة.
المسافةُ عينُها تُلْحَظ بين معرفةٍ يكوِّنها عن الآخَر مَن يعرف لسانَه وتاريخه وثقافتَه دقيقَ المعرفة، وأخرى يكوِّنها من لا يعرف أيّ شيءٍ من ذلك، أيّاً منهما، بين مَن يبغي أن تكون معرفتُه جسْرَ تواصُلٍ وحوارٍ مع الآخَر ومن يريد تسخيرها لسياسةِ الآخَر أو تشويهِه أو إخضاعِه...إلخ. من البيّن، إذن، أنّه ليس ثمّة من إمكانٍ للمساواة بين هذه الأَضرُب المتباينة من المعرفة في ميزان التّقدير نظراً إلى ما بينها من تفاوُتٍ كبير في قيمتها ومقادير فوائدها، ونظراً إلى اختلاف الأهداف المرتَجاة من تسخيرها لدى كلّ حاملٍ لها من الفريقين.
تنطبق هذه الملاحظات على المعارف المتكوّنة لدى حدّيْ العلاقة عن بعضهما، إذ هي عند هؤلاء وأولئك متعدّدة ومتفاوتة في ما بينها على صعيد القيمة ودرجاتِ الدّقّة و«المطابَقة» بحيث لا تَقْبل الجمْع بينها تحت عنوانٍ واحد (معرفة). على أنّ هذه المعرفة - سواء اجتمعتْ نوعيّاتُها أو تفرّقت - ليست واحدة، في الوزن والقوّة، عند العرب والغرب. ولستُ أقصِد، هنا، إلى القول إنّها متباينة بتبايُن الموقعِ والمرجع وتبايُن منتجيها، فلعمري إنّ هذا من تحصيل الحاصل، إنّما المقصود بالقول ذاك أنّ ثقلهما - كمعرفتين- في ميزان القوّة والتّأثير متفاوتٌ بل هو مختلّ، شديدَ الاختلال، لصالح معارف الغرب.
هذه حقيقة موضوعيّة قابلة للإدراك متى أخذنا في الحسبان الفارقَ الهائل بين أدوات المعرفة هنا وهناك ووسائط نقْلها وتوزيعها: جامعاتٍ، مراكزَ دراسات، معاهدَ، مختبراتٍ، صحفاً، مؤسّسات إعلاميّة، منصّاتَ تواصل، صناعةَ صُوَر ونشرها، فضلاً عن الهندسةِ الإيديولوجيّة للرّأي العامّ...إلخ. وليس من شكٍّ في أنّه يسع مثل هذا الاختلال الفادح في نسبة القوّة بين المعرفتين أن يُبْطِل مفعول قيمةِ أي معرفة قد يُفصح عنها الطّرفُ الأضعفُ في معادلة القوّة أو، على الأقلّ، أن يَحُدّ منه إنْ لم يستطع أن يُبطله. وهذا يعني أنّ قوّة أيّ معرفة ليست تكمن، دائماً، في محتواها بمقدار ما تعود إلى غِنى موارد إنتاجها ووسائل توزيعها ودرجة فاعليّتها وتأثيرها في من تخاطبه.
على أنّ عاملاً آخَر، في هذا الباب، لا يقْبَل التّجاهل إنْ أُريدَ معرفةُ ما يقوم من آلياتٍ وقواعدَ في خلفيّة الرّؤى المتبادَلة بين ثقافتيْ العرب والغرب وما يحرِّك اتّجاهاتها معرفةً أصحّ. يتعلّق الأمر، هنا، بفاعليّةِ جدليّةٍ حاكمة للعلاقة الثّقافيّة بين الطّرفين تتراوح بين حدّين وصورتين منها: جدليّة السّيطرة/الخضوع، وجدليّة السّيطرة/الممانعة. تقوم الصّلة الثّقافيّة، في الحاليْن، على علاقة السّيطرة من جانب الطّرف الأقوى في المعادلة: أعني الغرب.
من النّافل القول إنّ سيطرة الغرب ثقافيّاً تتغذّى، في وجوهٍ منها، من سيطرته السّياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة والتِّقانيّة ومن تحكُّمه في مصائر العالم. غير أنّها، على الأغلب، سيطرة ثقافيّة قد لا تكون، دائماً، في حاجةٍ إلى مواردَ من خارجٍ ترفِدها لِمَا تحتازُه هي من مواردَ ذاتيّة تجعلها في غُنْية عن رِفْدٍ خارجيّ. أمّا من جانب العرب فتُقَابَل السّيطرةُ الثقافيّةُ الغربيّة تلك بردودٍ دفاعيّة إمّا في شكل مقاومةٍ لها تسعى إلى إبطال مفعولها، كسيطرة، أو في شكل خضوعٍ يقع التّسليم فيه بقدَريّة تلك السّيطرة واستحالة كفِّ مفاعيلها وأحكامها على المغلوب.
جرّبتِ الثّقافةُ العربيّة، من جهتها، تيْنك العلاقتين فأبْدَت من أفعال الممانعة الكثيرَ وأنتجتْ نسختين متقابلتين نقيضين: ممانعة سلبيّة مارستْها من طريق قطع الصّلة بالوافد والانكفاء المَرَضيّ على الذّات والهويّة والماضي، وممانعة إيجابيّة سلكت إليها من طريق توطين المعارف والقيم الحديثة، وإعادةِ تأهيل الثّقافة العربيّة معرفيّاً لكي تخوض منافسةً نِدِّيّةً مع الثّقافات وتجترح لها مكاناً في رحاب الثّقافة الكونيّة. لكنّ الثّقافة العربيّة ما لبثت، في موازاة ذلك، أن استنكفت عن المسير في هذا الطّريق فأسقطتْ - في بعض اتّجاهاتها وتعبيراتها الأخرى - كلّ ممانعةٍ ممكنة في وجه سيطرة الغرب ثقافيّاً.
وهكذا مالت مقالاتٌ فيها إلى إبداء خضوعٍ كامل تَجَلَّى في تبعيّتها لذلك الغرب وتقليدها إيّاه في المعارف والأفكار والمسلّمات والسّرديّات! على أنّه من جانب الغرب، وفي مثل هذه الصّلة القائمة على مبدإ السّيطرة، ما كان لثقافته أن تمارس فعْل الاعتراف بغيرها من الثّقافات - لأنّها متشبّعة بنزعة التّمركز الذّاتيّ - ولا كان لمعرفتها عن غير الغرب أن تكون موضوعيّة، إذْ معرفةُ الغالب تكون، في العادة، مسكونةً بنزعة الغلبة شأنها، في الانزياح، شأن معرفة المغلوب.