السّرديّات والحقائق

00:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

تُقدِّم السّرديّات نفسَها بوصفها «حقائق» مرْويّة أو منقولة في صورة خطابٍ موجّهٍ إلى جمهورٍ من المتلقّين، حيث كلُّ خطابٍ ينطوي على سرديّةٍ مّا تَعْرِض نفسَها في جلاء أو في شكْلٍ مّا متَعَمَّدٍ من الإضمار.
هكذا تكون السّرديّات في الأحوال التي تتغيّا فيها إقناعَ متلقّيها - سامعاً أو قارئاً - بما ترويه من المعطيات والحقائق واستدراجَه إلى الإيمان بذلك، إذِ الحقيقةُ وحدها ما ينجذب إليه الوعيُ ويُبدي القابليّةَ لتصديقه والنّزول أمام معطاهُ المنقول إليه في خطاب، لذلك فالهَدفُ إليها والسَّعيُ الحثيث مطلبُ كلّ خطابٍ يرمي إلى تأسيس سرديّةٍ مقنِعة وجذّابة. من نافلة القول إنّ هذا النّوع من السّرديّات هو الذي يكون مداره، في الغالب، على هاجس/ مطلب الحقّ واليقين ابتداءً، ولعلّ من أَظْهَر تبدّيّاتها التّمثيليّة السّرديّاتُ الفكريّة - الفلسفيّة والعلميّة -، والسّرديّات التّاريخيّة. بهذا التّرتيب، إذن، نحن نُخرِج من حسبان الزّوج سرديّة/حقيقة تلك السّرديّات التي هي من طبيعة أدبيّة صرفٍ والتي تبغي أغراضاً جماليّةً واجتماعيّةً وثقافيّةً عدّة ليستِ الحقيقةُ منها على وجْهٍ من الإطلاق.
على أنّه من أجل أن تنجح في تقديم نفسها بوصفها حمَّالةَ حقائق، تحتاج السّرديّات إلى انتظام عمارتها الحِكائيّة على قدْرٍ عظيمٍ من التّرابط والتّماسك بين المكوِّنات وأدوارِ القول فيها ومراتبه. لا تكفي جاذبيّاتٌ موازية، مثل جاذبيّة اللّغة أو فنّ التّشويق وشدّ الانتباه (على أهميّتها التي لا يُجَادَل فيها وعلى شدّة الحاجة إليها) لتصنع للسّرديّة تماسُكها، لا بدّ لها من بنيةٍ تراتبيّة منطقيّة صارمة تنتظم أجزاءَها فتقود المعطى المسرود من لحظةٍ إلى أخرى، وتربط اللاّحق بالسّابق لكي يتعَلَّل به فتصير بذلك (أي البنية التّراتبيّة) بمثابة أَسمنتٍ للسّرديّة. وحده هذا الانتظام على مقتضًى تراتُبيّ معقول يوفّر لها الأسباب التي تَصِل بمسرودها إلى لحظة تحقيق إقناع مَن يُخاطِبه، أي اللّحظة التي يتمثّلها المتلقّي بوصفها سرديّةً مقنِعة وحاملة للحقيقة.
حين ننوِّه إلى حاجة البناء السّرديّ إلى التّرابط والحياكة المنطقيّة، لا نقصد من ذلك القول إنّ من شروط ذلك أن تكون حجارة عمارةِ السّرديّةِ مقدودةً من الواقع الموضوعيّ، بالضّرورة، أو مطابِقةً له أَتَمَّ مطابَقة، فأن تُوحِيَ إلى المتلقّي بأنّها حقيقيّة لا يعني أنّ ذلك يتوقّف، حكماً، على واقعيّتها أو على مطابَقة مَقُولها للواقع، إذِ «الحقيقيُّ» يُجاوِز في معناهُ ما هو ماثلٌ في الواقع الماديّ، لأنّ ذلك الماثلَ في الواقع المادّيّ لا يعدو أن يكون محسوساً فيما الحِسّ أو الإدراك الحسّيّ ليس الأداةَ المناسبة لمعرفة الشّيء. ولو لم يكن هذا البوْن قائماً بينهما لَمَا أمكنَ إدراكُ الأسباب التي تصنع لبعض السّرديّات قوّتَها الإقناعيّة في عقول النّاس مع أنّها لا تخاطبهم في شؤونٍ تقع في عالَم المشاهَدة، ولا تُثير لديهم السّؤال عمّا عساهُ يكون حظُّها من الوجود الواقعي. إذا كانت حقائق الرّياضيّات وحقائق المنطق ذهنيّةً غيرَ واقعيّة في كلّ خطابٍ علميّ وكلّ سرديّات العلم والفلسفة، ويسلّم بذلك أهْلُ العِلم، فلِمَ لا تكون هناك مثل هذه الحقائق غير الواقعيّة في سرديّات أخرى إذن؟
لعلّ موْطن الخطورة الأعظم في السّرديّات يكْمَن، بالذّات، في نمط فعاليّتها بوصفها «حقائق» أو حاملةً لحقائق واستقبالِها من قِبَل النّاس بوصفها كذلك. إنّ أوّل ما ينجُم عن ذلك من عويص المشكلات أنّ السّرديّات تحصِّن نفسها، في هذه الحال، من كلّ نيْلٍ منها أو قُلْ، تتحوّل إلى بنية قوليّة مدرَّعة لا يخترقها نقدٌ أو يصيبُها سؤال. وهي لا تصير كذلك إلا لأنّها تنغرس في الوعي وتتجذّر فتتحوّل إلى يقينيّاتٍ غيرِ قابلةٍ للمراجعة والنّظر، ثمّ لا تلبث أن تُتَناقَل وتُتوارَث ويُعاد إنتاجُها عبر الأجيال والأحقاب من غير أن يكون لكرور الزّمن عليها مفعولٌ أو أثر، على نحوٍ تتحوّل معه إلى معتَقَد (دوغما) جامد، بل كثيراً ما تُخْلَع عليها أرديةٌ من القداسة تجعلها موضعَ تقديسٍ جمعيّ. وهنا ليس صحيحاً أنّ السّرديّات عن الدّين (التّفسيريّة والفقهيّة والكلاميّة...) وحدها التي تتكرّس معتَقَداً في الأذهان ويُنْظر إليها بوصفها حُرماً لا يُنْتَهك، بل حتّى السّرديّات العلميّة والفلسفيّة والتّاريخيّة يقع لها من التّبجيل ما يقع للسّرديّات عن الدّين، وتُؤْخَذ معطياتُها من النّاس بما هي حقائق مطلقة لا تَقْبَل المراجعة.
نوّهنا، قبْلاً، إلى أنّ نجاح سرديّةٍ مّا في إقناع متلقّيها بأنّها حاملةٌ للحقيقة وقْفٌ على حسن بنائها البناءَ الموضوعيّ والمنطقيّ الصّارم الذي يرتفع بها عن رتبة الاشتباه. على أنّ جودة صناعتها من لدُن مَن يصنعها أمرٌ لا يكفيها لكي ترتفع إلى مقام الخطاب اليقينيّ المطلق أو، قل، ليس وحده مَن يؤسِّس لها تلك المكانة في وعي متلقّيها. نعم، لصاحب السّرديّة - أو أصحابها الذين يتعاقبون على تدبيجها في أزمنة عدّة متعاقبة - دورٌ رئيس في تعلية مقام السّرديّة في الإدراك العامّ، ولكن من قال إنّ الجمهور المتلقّي كائن سلبيّ يستقبل فقط ويتأثّر؟ من قال إنّه ليس، هو نفسُه، عاملاً من عوامل فعاليّتها في وعيه؟ بعبارة أدقّ، أليس الجمهورُ هذا له قابليّةٍ لتصديق السّرديّات والنّظر إليها من زاوية ما هي حقائق؟

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"