في أنّ التبادل الثقافي ممكن

00:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ليس عسيراً أن نتميّز معرفةً من معرفةٍ من طريق فحص مضمون كلٍّ منهما كما من خلال الوقوف على الغرض المؤسِّس لهما، ففي هذا الميزان تتبيَّنان ويتبدّى ما بينهما من فوارقَ وتمايُزات. تأسيساً على هذا يجوز أن يقال إنّه لا يتساوى في الميزان وعيان يطلبان هدفيْن مختلفين: ثقافيّ، معرفيّ من جهة، وسياسيّ، إيديولوجيّ من جهةٍ أخرى. بيان ذلك أنّ نوع المعرفة الذي سيتولّد من الأوّل مجرَّدٌ - على الأقلّ نظريّاً - من أيّ اشتباه قد يحوم حوله، فيما يرتسم الاستفهام عريضاً في وجْه النّوع الثّاني من المعرفة التي لا يُكْتَفى فيها، على الحقيقة، بالمعرفة أو التي لا يُراد بها معرفة من الأساس.
ليس معنى هذا أنّ المعرفة المُنْشَدّة إلى هدفٍ ثقافيّ محض (الرّغبة في المعرفة) صحيحة، بالضّرورة، لكنّ الغرض منها يظل، على الأقل، منزَّهاً عن الاشتباه فيه الأمر الذي يفرض نوعاً من الاطمئنان إلى سلامة مادّة تلك المعرفة من الشّوائب غير الثّقافيّة، حتّى وإنْ هي تبدّت للتّحليل معرفةً مضطربة، مشوَّشة أو منقوصَة الأدلّة أو ما شاكل.
حين نتوسّل هذه المقدّمة ونحن نقرأ في صفحة الرّؤى المتبادَلة بين العرب والغرب، في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، سنحتاز الأدواتِ المناسبةَ لبناء التّمييز المنهجيّ بين الموضوعيِّ والذاتيّ، المعرفيِّ والإيديولوجي في تلك الرُّؤى التي يتبادلُها العالَمان عن بعضهما. على أنّ نجاعة هذه الأدوات - وهي شرطٌ لازبٌ لدقّة الفحص - تظل متوقّفة على انتمائها إلى حقل المعرفة، لأنّه الحقل النّقدي الأكثر أهليّةً لتحليل المعطى المعرفيّ والثّقافيّ (والرُّؤى المتبادَلة تلك شكلٌ منه). إذن، لا حاجة بنا، إلى بيان وجْه الوجوب في إعمال تلك الأدوات من أجل تحليل العلاقات الثّقافيّة البيْنيّة، ولكن ما أغنانا، في الوقت عينِه، عن القول إنّ حاجتنا كبيرة إلى الفحص عن هذه الرّؤى وتحليلِها ونقدِها، ليس فقط في تقابلها بين فريقٍ وآخَر، بل حتّى في تقابُلها داخل وعي الفريق الواحد منهما.
من النّافل القول إنّ صورة الغرب في وعي العرب هي غير صورة الغرب في الوعي الغربيّ، وصورةُ العرب في وعي الغرب غير صورتهم في الوعي العربي. هذا شأنٌ مبتَدَه وابتدائيّ، ولكنْ ليس مرد الاختلاف بين صورة ذاتِ كلٍّ منهما عن نفسها وصورتها في وعيِ آخَرِها إلى ما يصاحب كلَّ ذاتٍ من ميلٍ إلى التّعبير النّرجسيّ عن نفسها، وما يقود إليه ذلك - في أحيان كثيرة - من طُفورِ منزعٍ إلى الحطّ من الآخَر الذي يقابلها، بل يعود الاختلاف إلى تبايُن مواقع النّظر عند طرفي العلاقة.
بيانُ ذلك أنّنا نحن، في الحاليْن (في حال صورة كلّ طرف في وعي الطّرف الثّاني)، إزاء علاقةٍ تقابليّة بين ذاتٍ ناظرة وموضوعٍ منظورٍ إليه. وإذا أخذنا في الحسبان ما بين النّاظر والمنظور إليه من صلاتٍ تاريخيّة مديدة، مزدحمة بوقائعَ متباينة من التّثاقُف والصّراع والتّواصُل والتّهيُّب المتبادل، وأخذنا فيه اختلافَ مرجعيّاتهما الحضاريّة والثّقافيّة والدّينيّة... اجتمعت أسبابٌ عدّة لفهم وجود تلك المساحة من البوْن التي تفصل نظرتَيْ كلٍّ من العالَميْن إلى آخَرِه بل تضعهما أحياناً - وخاصّةً في فترات تأزُّم العلاقة - في حالٍ من التّضادّ والتّنافيّ.
على أنّه مثلما يمكن لعلاقة التّقابُل بين الأنا والآخَر أن تتّسع فتْقاً وتخلُق بيئةً مناسبة للصّدام بين رؤيتيْن وخطابين، يمكنها أن تفتح - من وجْهٍ ثانٍ - ولو كُوَّةً في جدارها نحو نظرة أكثر توازناً وأدنى إلى الموضوعيّة من التّعصّب، وأسْعَى إلى التّفهُّم والتّفاهم من ركوب دروب الخصومة والتّعادي والقطيعة. إنّها، بهذا المعنى، تكون علاقةً مفتوحة على محْتَمَلات عدّة وليست مغلَقة على إمكانٍ واحدٍ وحيد.
نعم، من الصّحيح تماماً أنّ شرطَها الموضوعيّ الذي تقع فيه وتجري فصولُها في نطاق أحكامه شرطٌ محدِّد وله، حُكْماً، الأثرُ الأكبر في تقرير الكثير من أوضاعها، وتحديداً، في تهيئة المناخ المناسب - وغالباً السّالب - لها، ولكن من الصّحيح، أيضاً، أنّ مساحةً من صورة تلك العلاقة لا تقرِّرها المسارات الموضوعيّة، دائماً، وإنّما تقرّرها الإرادات، إرادات الشّركاء فيها. هكذا تجدها تفرض أحكامها على مسار تلك العلاقات فتراها تأخذها إلى هذه الوجهة أو تلك، أعني على جهتيْ السّلب والإيجاب. من البيّن، هنا، أنّ بناء نظرة كلّ طرفٍ إلى آخَر على أساسٍ من إرادة المعرفة على مَحْمَل ثقافيّ، ينتهي إلى إنتاج حالة إيجابيّة من التّفاهم البنّاء، هذا الذي سرعان ما يتحوّل إلى حالٍ من التّبادل الثّقافيّ، فيما ينتهي بناؤها على أساس غاياتٍ أخرى من المصالح السّياسيّة إلى إنتاج حالة من الاشتباك الثّقافيّ والإيديولوجيّ.
نحن، إذن، أمام مثاليْن ومسلكيْن على طرفي نقيض، وأمام مَساقيْن تُساق فيهما علاقات الحدّيْن إلى نتائج متقابلة، ولقد جرّبتِ الثّقافتان العربيّة والغربيّة، والعرب والغرب عموماً، إقامة العلاقة بينهما على المثاليْن النّقيضيْن ذينِك، فكان الفارق في الفرص والنّتائج بادياً على نحوٍ من الجلاء لا مَزيد عليه: فارقاً بين التّواصُل والتّحامُل، بين الحوار والشّجار.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"