التقاليد بين المجتمع والسياسة والثقافة

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ربما كان للتقاليد في بيئات الاجتماع والسياسة والمؤسسات أدوارٌ محمودة، وربّما حَمَلَت عليها حاجات موضوعيّة لدى من يتمسّكون بها ويَحْفظون لها حرمَتها. يقع ذلك لا في المجتمعات التّقليديّة التي لم تتشبّع بقيم الحداثة، أو التي لم تعرفها على نحوٍ من الاتّساع، فقط، بل يقع حتّى في المجتمعات التي تقلّبت في تلك الحداثة وعاشت في أكنافها لأحقابٍ من الزّمن ممتدّة فَبَدا للنّاظر إليها من خارج، وكأنّها ودَّعتِ التّقليد إلى الأبد. على ذلك شواهدُ عدّة في الحياة العامّة، في بلدان الغرب (لا في الحياة الخاصّة فحسب)، تكيّفت معها ذائقة عامّة -كوّنتْها، في الأساس، أنماطُ الحياة الحديثة- سرعان ما نسيَتْ مَبَادئ تلك التّقاليد وأصولَها الموروثة فتصرّفت معها بمثل ما تتصرّف مع منتوجات عصرها من القيم، بل هي لم تكد -إلا في القليل من الأحوال وفي نطاقاتٍ ضيّقة- أن تُبديَ التّبرُّم بها أو تَجْهَر بالنّقد والرّفض لها.
مَن ذا الذي يمكن أن يرى في بعض المألوف من تلك التّقاليد في الغرب، اليوم، مَعَرَّة أو مَساءةً تدعو إلى الخجل أو تستنفر في النّفس حاسّة الاحتجاج؟ مَن يَسْأل نفسَه عن سرِّ تَمَسُّك المَلكيّات الأوروبيّة (البريطانيّة والإسبانيّة والهولنديّة...) بتقاليدها العريقة في احتفالاتها الرّسميّة مع أنّها طقوس تعود إلى مئات السّنين؟ ومَن يسأل نفسَه أو غيرَه عن سرِّ إصرار النّظام السّياسيّ الأمريكيّ على الحفاظ على تقليد السّبعين يوماً (الدّستوريّ) الذي يفصل تاريخ التّنصيب الرّسميّ للرّئيس عن تاريخ انتخابه، مع أنّ ذلك إنْ كان يجوز في نهاية القرن الثّامن عشر -وعلى مدار القرن التّاسع عشر- (لصعوبة انتقال الرّئيس الفائز (بالعربات التي تجرُّها الخيول) من ولايته، إذا كانت نائية، إلى العاصمة واشنطن)، فهو لم يعد يجوز اليوم بعد أن بات يسعه -بثورة المواصلات- أن يتنصّب في اليوم التّالي لانتخابه؟
ومَن ذا الذي يستشنع قيافة أعضاء مجلس اللّوردات أو قضاة المحاكم الغربيّة والعالميّة مع ما فيها من تمسُّكٍ -قد يبدو كاريكاتوريّاً- بزيٍّ غارقٍ في القِدم، ومع ما فيها من مجافاةٍ لذائقة اللّباس الحديثة والمعاصرة؟ ثمّ إذا كان هذا قد بات في عداد المألوف الذي لا يُسْأل عن سبب التّمسُّك به في الطّقوس السّياسيّة والقضائيّة، فكيف لا تكون مألوفةً تلك الكمّيّاتُ الهائلة من التّقاليد الاجتماعيّة المحروصِ على استمرارها -حرصَ الكنائس على طقوسها- والمتبدّيّة في مختلف مظاهر الحياة والاحتفال؟
من البيّن أنّ التّعايش مع هذه التّقاليد البائدة، في مجتمعات الغرب ودوله، وإحاطتَها بالرّعاية التي تضمن لها الاستمرار لم يقع من باب الاعتباط أو لمجرّد الألفة بها، بل إنّ وراءه أهدافاً وغايات تبرّرها حاجاتٌ لدى تلك البلدان: شعوباً ونُخباً. ولقد تكون هذه التّقاليد مطلوبةً، قصداً، من المجتمعات والدّول على السّواء لا فقط مورثة من الماضي، وذلك هو الغالب عليها. إنّها مطلوبة من المجتمعات لهدفٍ يقع في صميم تماسكها كمجتمعات هو تمتينُ لحمتها الدّاخليّة، وتعزيزُ الشّعور الجمعيّ فيها بالانتماء المشترك والهويّة الجامعة، وهذه من عُدّة اشتغال النّظام الاجتماعيّ ومن دواعي وحدة المجتمع وتنمية علاقاته التّضامنيّة.
ثمّ إنّها مطلوبة من الدّول لهدفٍ هو التّشديد على عراقتها وعلى استمراريّتها التّاريخيّة، ومن نافلة القول إنّ الاستمراريّة التّاريخيّة هذه واحدة من أهمّ موارد الشّرعيّة السّياسيّة لأيّ دولة، بما في ذلك الدّول التي تتمتّع -سابقاً- بالشّرعيّة، بل بأسمى صورها التي تتجسّد في نموذج ما سمّاه ماكس ڤيبر الشّرعيّة العقلانيّة: مثل دور الغرب. هكذا نلفى وجوهاً غير مذمومة للتّقاليد في مجتمعات العالم المعاصر تُفْصِح عن أدوارٍ ووظائف في غاية الإيجابيّة تنهض بها لصالح تلك المجتمعات على نحوٍ تَبْطُل معه مشروعيّةُ القدْح فيها.
على أنّ أمْرَ التّقاليد في المعرفة والفكر والقيم الثّقافيّة يختلف عن أمرها في حقلي الاجتماع والسّياسة، بل هو يناقضه أتمَّ مناقضةٍ ويُولِّد من التّبعات ما له أسوأ الآثار على هذا الحقل. ليس في التّقليد ما يَأْزُر ثقافةً أو يَحْفَظ لها هويّةً أو يوفّر لها مكانَ قوّة، ولا فيه ما يُطلِق في آلة الفكر والمعرفة ديناميّةَ الإنتاج والإبداع، بلِ الغالبُ عليه أن ينتصب بوصفه عائقاً كابحاً للمعرفة والثّقافة. التّقليد، بالتّعريف، اجترارٌ، إعادةُ تدويرِ ما قاله/ كَتَبه السّابقون والنّسجُ على منواله وإشاعتُه، بالتّالي، في بيئةٍ لا تشبه تلك التي نشأت فيها الأفكار التي على منوالها ينسج.
ومن المعلوم أنّ كلّ اجترارٍ هو، بطبيعته، اتّباعٌ لنظامٍ من المعرفة وَلّى، حُكْماً، لأنّه خاصٌّ بزمنه الذي نشأ فيه وامتناعٌ، في الوقت عينه، عن إبداعِ جديدٍ لا يكون (أي الإبداع) ممكناً إلا متى كَسَر نطاق أُطُر المعرفة الكابحة: أي التّقليد. هكذا يَحكُم التّقليد على الفكر والمعرفة بالانحطاط عن مستوى زمنهما التّاريخيّ والثّقافيّ لأنّه -بكلّ بساطة- لا يترك أمامهما سبيلاً إلى الخروج من الجمود والانغلاق وكسر علاقة الاتّباع ما دام يعزِّز سلطانه ويفرض نفسه معياراً مرجعيّاً، بل يذهب -أبعد من ذلك- إلى تقديم نموذجه بما هو أفق!

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"