نبيل سالم
الحرب التي تدور سجالاتها منذ أكثر من مئة عام بين الشعب الفلسطيني والمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي ليست حرباً عسكرية بالمفهوم التقليدي، فالحرب بمفهومها التقليدي المعروف هي التي يعتمد أطرافها على القوة العسكرية بأدواتها المعروفة من أسلحة ومقاتلين.
لكن ما يميز الحرب بين الشعب الفلسطيني والمشروع الاحتلالي الإسرائيلي، أنها حرب معقدة متشابكة أدواتها كثيرة ومتنوعة، لأن معاركها هي معارك وعي قبل أي شيء، لا تخاض بالسلاح وحده وإنما بالكلمة والصورة والسردية التاريخية والعقل، وهو ما يفسر طول زمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وآليات تطور النضال الوطني الفلسطيني، من ميادين السلاح إلى ساحات الفكر والإعلام والوجدان الإنساني.
وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم أهمية السلاح كوسيلة مهمة في مقاومة الاحتلال، إلا أن حرباً خفية لم تستخدم فيها الأسلحة التقليدية كانت الأكثر تأثيراً في المحافظة على الهوية الوطنية الفلسطينية، من خلال استخدام الأفكار والتوعية، وتقديم سردية فلسطينية صحيحة ومقنعة، تستند إلى الحقائق التاريخية بمواجهة سردية الأساطير التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي لتسويق أفكاره العنصرية، وتزييف التاريخ الفلسطيني وتشويه صورة الشعب الفلسطيني.
ومن هنا تبرز أهمية الوعي في مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، حيث يشكل هذا الوعي الجمعي أحد أهم محددات مواقف الشعب الفلسطيني، وقدرته على التحكم والعمل من أجل أهدافه، ومن هنا كانت الحرب على الوعي من أبرز ما سعى إليه الاحتلال الإسرائيلي منذ إقامة «إسرائيل» بقرار غربي في عام 1948 وحتى يومنا هذا.
أما أبرز مظاهر هذه الحرب الإسرائيلية على الوعي، فقد كانت موجهة للمنطقة العربية والشعب الفلسطيني خاصة، والعالم عامة، حيث كانت «إسرائيل» تحاول تضليل الرأي العام العالمي، من خلال تصوير نفسها ضحية في محيط عربي (متوحش) وغير متحضر، وأنها تمثل واحة الديمقراطية والاستقرار في المنطقة، وترافقت تلك المزاعم الإسرائيلية حول ما يسمى بأرض الميعاد، وأن اليهود عادوا إلى أرضهم «التاريخية» التي وعدهم الله بها، وهي سردية أسطورية تلمودية، إضافة إلى استخدام فكرة العداء للسامية في العالم، ولاسيما في الدول الغربية وإلصاقها بكل من يعارض أو ينتقد السياسة الإسرائيلية، التي كانت تتجه نحو المزيد من التطرف.
وخلال عشرات السنين التي تلت النكبة الفلسطينية، برزت في الواقع معارك أشد احتداماً وهي المعارك الإعلامية والسياسية بين الشعب الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي، الذي استطاع بفضل الماكينة الإعلامية الغربية حشدَ تأييدٍ غربي كبير له من قبل النظم السياسية الغربية، ولاسيما التي تتقاطع مصالحها مع الاحتلال الإسرائيلي.
كما عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تشويه صورة الشعب الفلسطيني وإلصاق صفة الإرهاب بكل من يقاوم المشروع الاحتلالي الإجلائي لفلسطين، الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني.
واعتمد الاحتلال الإسرائيلي في حربه على الوعي الفلسطيني، سياسة ممنهجة وفي اتجاهات عديدة، حيث سعى إلى توظيف العديد من البرامج والمحفزات التي تضمن انخراط الفلسطينيين في المنظومة الاستعمارية بأشكال متفاوتة، ونشر قيم ومفاهيم تهدف إلى تكريس حالة الانهزام، وأسرلة الفلسطينيين داخل المناطق المحتلة عام 1948، عبر جهاز التعليم بإقصاء الوجود الفلسطيني من المناهج التعليمية، والتركيز على مصطلحات أخرى كالمواطنة وغيرها من المفردات التي لا تظهر جذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بالتوازي وعلى مدى عقود طويلة مع الاعتداءات والجرائم التي لم تتوقف منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، ضد الشعب الفلسطيني المشرد والعرب عامة، ناهيك عن محاولات تضليل الرأي العام العالمي لحشد المزيد من التأييد الغربي.
في المقابل كان على الشعب الفلسطيني أن يواجه هذه السردية الإسرائيلية المضللة، من خلال زيادة الوعي، وتأكيد الحق الفلسطيني، على الصعد كافة، الثقافية منها أو الفنية والسياسية والإعلامية وغيرها، الأمر الذي شكّل رافعة للنضال الفلسطيني، ولذلك لا غرابة في القول إن المؤسسات الثقافية والإعلامية والفنية وغيرها أسهمت بشكل كبير في توفير البيئة المناسبة لتشجيع الإنتاج الفكري الثقافي الوطني فيما يخص القضية الفلسطينية، ونشر المطبوعات والكتب التي تؤرخ وتحفظ حقوق الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة، في معركة الوعي مع الاحتلال.
ويُجمع الكثير من الباحثين على أن المعركة على الوعي تشير إلى احتدام غير مسبوق في هذا المضمار، مع تراجع الرواية الإسرائيلية في العالم، مقابل بروز حضور الرواية الفلسطينية، وهو ما بدا جلياً بعد عملية «طوفان الأقصى» وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة، حيث أصبح العلم الفلسطيني يطوف في جميع عواصم العالم، وحتى في قلب الدول التي تدعم حكوماتها إسرائيل وتشجعها على المضي في سياساتها العنصرية وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني.
والحقيقة التي باتت واضحة للعيان، وهي أن معركة الوعي بين الشعب الفلسطيني والاحتلال ستتصاعد في المستقبل القريب، وستكون لها تداعيات كثيرة على إسرائيل، في ارتباط بتحولات إقليمية وعالمية، وسيحمل المستقبل الفلسطيني انتصارات في هذه المعركة قد تكون أكثر من المعارك العسكرية التقليدية.