عبد الإله بلقزيز
ربما كان في حكم المعسور أن تصير علاقات العرب والغرب إلى حالٍ من الاستقامة والتّوازن ينتهي بها الاضطراب فيها والتّأزّم أو ينضبط، على الأقلّ، لأحكام التدبير العقلاني وما تقضي به المصالح، ذلك أنّ الشروخ عميقة، جداً، بين العالَميْن إلى حدودٍ قد تستعصي فيها على اللَّأْم: شروخُ الرّؤى والمصالح وسوابقِ المصادمات. لذلك سيكون علينا أن لا ننتظر خاتمةً سعيدةً سريعة لأزمة الثّقة المتبادَلة بين العالَميْن، وتَبَدُّداً لِمَا يتولّد منها وينجُم من عويص المشكلات في ضوء هذه الحقيقة المزمنة (تنامي الشّروخ). لكنّ تاريخ العلاقات الإنسانيّة يعلّمنا، مع ذلك، أنّ المعسور ليس مستحيلاً، وإنْ عَوصَ أمره واشتد، خاصةً حينما يسَع الإرادةَ تذليل استعصائه وتطويعه والسيطرةُ على مفعوله السّالب: حِفْظاً للمصالح المشتَرَكة، وصَوْناً للسلم بين الأمم، وتمكيناً لعلاقات التعاون من القيامة والرسوخ، وهو ما كان من المُتاحات، دائماً، حين يُرادُ المصيرُ إلى ذلك.
العسْر المشار إليه فوق ليس تحدياً خاصاً بعلاقات العرب والغرب، على وجْه الحصْر، وإنّما هو شاملٌ سائرَ العلاقات بين الأمم والدول في العالم المعاصر حتى وإنْ كان ذلك بدرجاتٍ من الحِدّة متفاوتة. نعثر عليه، مثلاً، في ما كان يعتور علاقات بلدان الغرب الأطلسي والمعسكر السوڤييتي- الاشتراكي، خلال حقبة الحرب الباردة، من تناقضات حادة وصراعات مستديمة وخوفٍ متبَادل من مواجهة نووية على ساحة أوروبا. كما نعثر عليه، اليوم، في علاقات الغرب بروسيا أو بالصين أو بالهند، أو في علاقات الولايات المتحدة الأمريكية ببلدان أمريكا اللاتينية، مثلاً، أو في علاقات فرنسا ببلدان إفريقيا، بل نحن نعثر على ذلك حتى داخل الغرب نفسه بين مركزه الأمريكيّ وهوامشه الأوروبيّة...إلخ. من البيّن، إذن، أنها، حالٌ عامة تكاد أن تشبه قانوناً حاكماً للعلاقات بين الأمم والدول والثقافات حتى وإنْ كانت تمظهُرات تلك الحال لا تطفو على السّطح دائماً ولا تعكِّر، بالتّالي، مجْرى العلاقات في شكلها الخارجي الذي تُقدِّم نفسها به.
لم نتقصّد أن نجعل من الغرب، في الأمثلة السابقة، حداً ثابتاً في كلّ حالات العلاقات التي أشرنا إليها، ذلك أنّ سوابق التّاريخ الحديث - على الأقلّ منذ صعود المدنية الأوروبية وظهورها على العالم كلِّه قبل خمسة قرون - تُطْلِعنا على أنّ هذا الغرب لم يَسْعَ، مرةً - إلى أن يقيم علاقةً متكافئةً مع غيره الخارجِ عن حومته الجغرافية والقومية والثقافيّة والأنثروبولوجية، لأنّه (الغرب) لا يَرضى لنفسه أن يكون في حالٍ من الندية مع ذلك الآخَر غيرِ الغربي.
ولما كان الغرب مسكوناً بنزْعات التفوّق والاستعلاء الحضاري والتمركز الذاتي، بل والميْلِ إلى التمايُز والمُفاصَلة عن غيره على أساسٍ عنصريّ، فقد سوّغ لنفسه أن يختطَّ له مسلكاً في التّعامل مع العالم غيرِ الغربي مَبْناهُ على المصلحة الذّاتيّة والإجحاف بحقوق الآخر، أي على قواعدَ نقيضٍ من تلك التي يعتمدها في داخله الاجتماعي والبيني. هكذا بات مألوفاً أن تنهض علاقاتُه بغيره على أساسٍ من الهيمنة والتسلّط والمعايير المزدوجة والتبادل اللامتكافئ وصولاً إلى العدوان: الحرب المباشرة أو بالوكالة والعقوبات الاقتصادية والحصار... إلخ.
على أنّه، على الرغم من هذه السيرة القبيحة للغرب في العالم الخارجي - التي لا تُشبه، ألبتة، سيرته في الداخل - لا يَعْزُب عن البال أنّ نظام العلاقات الدولية: اليوم وفي السابق، قائم على قواعدَ تكاد أن تكون مستقلةً عن إرادة قواهُ، لأنّها هي الناظمة لعلاقتها. من ذلك، مثلاً، ما تفيدنا به حقيقتان رئيسيتان ليس يليق بأحدٍ أن يتجاهل دلالتهما وأدوارَهما في تنمية تلك العلاقات، كما في توفير بعضِ أسباب حمايتها من التّأزُّم: أولاهما أنّ المصالح تظل تمثل إحدى أَفْعل الديناميات الدافعة نحو تأسيس العلاقات بين الأمم والدول على مبدأ التعاون: خاصةً حينما يُثبت أهْلُ تلك المصالح أنّ مصالحهم القابلة للتبادل مَحميةٌ بنظامِ حمايةٍ يمنعها من الأخطار الخارجيّة، وأنّ التفريط فيها خطٌّ أحمر. ولقد يقوم هذا التعاون بينها حتى حينما تكون في حالة عداءٍ (على مثال ما كان بين العظميَيْن في الحرب الباردة، أو بين أمريكا والصين اليوم). أما ثانيتهما فتكمن في أنّ الأزمات والمشكلات والصراعات تظل، مهما عظُمَ حجْمُها، قابلةً للاستيعاب والضبط والحل إنْ نشأت إرادة حقيقية من أجل ذلك، ومن أجل منع انفجارها.
وعليه، ليس من سببٍ وجيه يدعو إلى الاعتقاد بأنّ علاقات العرب والغرب ستستمرّ مأزومةً إلى ما شاء الله، وأنّ أمرَ سوئها سيزيد استفحالاً: على نحو ما يفترضه المهووسون بفكرة «صِدام الحضارات» من الجانبين. نعم، قد لا تشهد صراعاتٌ كثيرة في العالم على توقُّفٍ كاملٍ أو على حلولٍ سياسية في الزّمن المنظور، غير أنّ احتداد تلك الصراعات ليس قميناً - دائماً - بأن ينسف وجوهاً أخرى من العلاقة تنسُجُها المصالح المتبادَلة، على ما يعتوِرها من عدم تكافؤ. إنّ منطق السياسة والعلاقات السياسية الدولية ليس منطقاً خطياً، بل هو منطقٌ متعرِّج وجدلي يحمل في جوفه حركتين متقابلتين. والعبرةُ في إدارة هذه العلاقات إنما تكون في معرفة كيف لا يصير التقابُل ذلك صداماً عنيفاً، وكيف يمكن تذليلُه بالتعاون.