عبد الإله بلقزيز
كلُّ ميْلٍ إلى العدوان مدفوع، حكْماً، بدافعٍ من نفسٍ تزدحم فيها مشاعر متناظرة من الحقد والكراهيّة والكيْد والغضب. ليس يَسبق العدوانَ أو يمهِّد له شيءٌ من صفاءِ ضميرٍ أو هَدْأةِ نفسٍ حتّى وإنْ كان يمكن أن يكون لدى صاحبه قليلٌ من الاطمئنان إلى عدالة العدوان ذاك ومشروعيّتِه متى كان التّسويغ لذلك العدوان يقع باسم مبدأ أعلى: دينيّ أو أخلاقيّ أو إنسانيّ. العدوان (والحربُ شكْلٌ منه) فعْل افتراسيّ يتوسّل غرائز الشّرّ جميعَها لتحقيق المُراد منه: تصفية الخصْم، أو إخضاعه أو إذلاله، وهذه جميعُها أهدافٌ مؤسِّسة لكلّ عدوان: أكانت مرسومةً سلفاً لدى مَن يُقْدِم عليه أو فَرَضها واقعُ اشتباكه مع خصمه.
في جميع الأحوال لا ينتمي فعل العدوان إلى أفعال العقل لأنّ مبْنى هذه على الفضيلة، والعدوان ليس من هذا الجنس حتّى وإنْ رتَّب لنفسه ترتيباً عقلانيّاً: أليستِ الحروبُ - الخارجة عن ميزان العقل - ميداناً فسيحاً للتّخطيط العقلانيّ مع أنّها لا تنتمي إلى العقل أو - بلغة أفلاطون - لا تنتمي إلى القوّة العاقلة، بل إلى القوّة الغضبيّة؟
الميْلُ إلى العدوان غريزيّ إذن لا يَعْرى منه كائن حيّ من كائنات الطّبيعة. وهو ميْلٌ غريزيّ لأنّه حيويّ عند كلّ الذين يأتُون هذا الفعل، إذْ هو لصيق الصّلة بغريزةٍ أخرى في الكائن هي غريزة البقاء، الغريزة التي تجعل التّمسُّك بالحياة أَرْأَس الدّوافع والغايات. ولمّا كان البقاءُ الحيويّ مهدَّداً، دائماً، من مصدرين هما: الخطر الخارجيّ وفقدان الغِذاء (القوت)، كان العدوان ينصرف - في العادة - إلى أحد هدفين: الدّفاع عن الذّات والوجود، وتحصيلُ ما به تتأمّن أسباب الحياة. يتعلّق الأمر هنا بما يمكننا أن نسمّيَه البنية التّحتيّة النّفسيّة العميقة للعدوان/ الحرب، وهي التي تفسِّره في تجلّياته كافّة، وفي نطاقاته المختلفة: الفرديّة، الجماعيّة، المجتمعيّة.
ولكنّها، أيضاً، البنية التي تمظهرت في سياقٍ من تطوّر الكائنات في الطّبيعة بوصفها خبرة حياتيّة تراكميّة، وهي خبرة بات يمكن درسها اليوم في نطاق دراسات نظام الحياة في الطّبيعة حيث تتعاور على ذلك علومُ الأحياء مع علوم الحيوان، ثمّ علوم الاجتماع الحديثة وتفرّعاتها الأنثروپولوجيّة وعلم النّفس: وحيث سلوك الحيوان العاقل (الإنسان) ونظامُ حياته يُقرآن في مِرآة بدايات التطوّر الأولى ويُبحَث فيهما عن المشترَك الثّابت الذي لا يُبدّده التّطوّر التّاريخيّ.
ومع أنّه من تحصيل الحاصل أنّ اللاّشعور الحيوانيّ في السّلوك الإنسانيّ خَضَع للتّرويض والتّهذيب والأنسنة بواسطة عوامل عدّة (الدّين، الدّولة، القيم والأخلاق الاجتماعيّة...) وحُوصِرَ، إلى حدٍّ بعيد، وحُدَّ من تأثيراته في الحياة وفي العلاقات الإنسانيّة العامّة داخل المجتمع الواحد وفي ما بين المجتمعات، إلاّ أنّ مفعوله لا يزال سارياً في صُوَرٍ مختلفة من السّلوك الإنسانيّ، الفرديّ والجماعيّ، تتجلّى في ظواهرَ عدّة من قبيل العدوان والحرب وممارسة القهر على الآخرين وإلحاق الأذى بهم وإنزال الظّلم بهم.
على أنّ عدوان كائنات الطّبيعة - بما فيها الحيوانات - على بعضها يختلف، قطعاً، عن العدوان داخل المجتمع الإنسانيّ، بل قد لا يُقاس به وجْهاً مقبولاً من القياس، ليس على صعيد نتائج ما يُفضي إليه كلّ نوعٍ من العدوانيْن (حيث قد يفوق العدوان في المجتمع الطّبيعيّ، في القسوة والشّراسة، مثيلَه في المجتمع الإنسانيّ أحياناً)، وإنّما على صعيد علاقة كلِّ فاعل للعدوان بالفعل الذي يقوم به (العدوان) وبالغاية التي يقصد إليها من إتيانه، فلقد يجرى العدوان في عالم الطّبيعة بعيداً من أيّ مشاعرَ مُضمَرَة، بل من تلقاء الغريزة وبغاية حِفظ البقاء (في حالة الضّواري: كُبْراها وصُغراها) أو للدّفاع عن الوجود. أمّا في العالم الإنسانيّ فتتدخّل، إلى جانب الدّافع الغرائزيّ، دوافعُ شعوريّة نفسيّة (مشاعر الكراهيّة والحقد والعنصريّة وسواها)، ويقع - في الغالب - بالتّدبير والتّخطيط لا بالتّلقاء. والأدعى إلى الانتباه أنّه قد يجري، أحياناً، حتّى من دون حاجة صاحبه إلى الدّفاع عن النّفس فيما إذا كان قويّاً، بل لأغراض أخرى أبعد من حاجات الحاضر أحياناً.
ها هنا نلتقي ببعدٍ آخَر من الأبعاد المؤسِّسة لفعلِ العدوان: نعني بُعْد المصلحة. من أجل المصلحة يتسوَّغ فِعْلُ العدوان عند مَن يُقْدِم عليه. يقع ذلك للأفراد مثلما يقع للجماعات، لكنّه في حالة الجماعات يصير أشرس وضحاياهُ أكثر لأنّه يتّخذ شكلاً معلوماً هو الحرب: هذه التي قد تسْلُك سبيلَ الإفناء الذي يكون - رغم الفارق في موارد القوّة - إفناءً متبادلاً. والحرب، بطبيعتها، فعْلٌ مسبوقٌ بعواملَ عدّة: النّيّة، التّخطيط، الإعداد، القرار، التّنفيذ المتدرِّج للخطط والأهداف.
لكنّ هذه جميعَها لا تكفي المحاربَ لتحقيق المرام إن لم يعبّئ مجتمَعَهُ كلَّه ضدّ العدوّ. قد يتيسَّر عليه أمرُ تلك التّعبئة إذا كانت الأحقاد والضّغائن متبادَلة، سلفاً، بين مجتمعيْ طرفيْ الحرب، وقد تتعسّر إن كانتِ العلاقات طبيعيّة فيُحْتاجُ، حينها، إلى تكثيف التّعبئة والتّحريض ضدّ بعضهما، لذلك كانتِ الدّعايةُ والتّعبئة الجماهيريّة والتّجييش العامّ مِن عُدّة الحرب دائماً. وهكذا، مع أنّ بلوغ المصالح وحيازتها يمكن أن يسلُك طرقاً عدّة ويتوسّل وسائل عدّة من غيرِ صدامٍ عسكريّ، إلاّ أنّ خيار الحرب في لعبة المصالح يظلّ ثابتاً في علاقات الاجتماع الإنسانيّ.
abdilkeziz [email protected]