عبد الإلـه بـلقـزيـز
الغالب على النّاس - أفراداً كانوا أو جماعات - أن لا يتزحزحوا عمّا وَقَر في نفوسهم وتوطَّن في أذهانهم من يقينٍ بما تلقّوه من معارفَ - قراءةً وسماعاً - وبما عاينوه من ضروب السّلوك العائليّ والجمْعيّ، وبما تشرَّبوه من قيمٍ اجتماعيّة وأخلاقيّة واعتقاديّة...، فهذه جميعُها تبدو لهم من المستَبدَهات التي لا تستدعي نظراً مستأنَفاً، بل تبدو لهم - أكثر من ذلك - في جملة ما يشكّل مقوّمات الشّخصيّة التي بها يتميّزون عن سواهم من المنتمين إلى جماعات أخرى.
هكذا يستحيل أيّ تساؤلٍ منهم عمّا هو في حكم اليقينيّات الثّابتة عندهم ضرباً من الاستفهام عن ذواتهم هُم وعن وجودهم وهويّتهم، أو ضرباً من التّشكيك فيها وفي سلامة ما يتقوَّم به كيانُها، الأمر الذي لا تَقْبَل ذاتٌ مّا - فرديّة أو جماعيّة - أن تسقط فيه أو أن تنتهيَ إليه! هكذا، ومع كرور الزّمن، تصبح اليقينيّات تلك معتقداً Dogme متحجّراً عصيّاً على المراجعة، وسبباً في توليد عوائق المعرفة وكبْحِ أيّ تطورٍ ممكن في إدراك الأشياء، ليَشْرَع الوعيُ بعد ذلك - في قطع شوطٍ من الاصطدام بمشكلات الواقع، التي يغدو فهمُها في حكم الممتنع والسّيطرةُ عليها فعلاً في باب المُحال أو، على الأقلّ، في حكم المعسور.
ما الذي يحمل الذّات على تبرئة نفسها، دائماً، من الزّلل وعلى الوُثوق بنفسها وما تحمله من معارفَ ويقينيّات إلى الحدّ الذي تُوقع فيه نفسَها في مشكلات عدم التّواؤم مع الواقع، وفي تنكُّب الوعي والإرادة عن أداء دورهما المفترض؟
نعزو ذلك إلى أثر فِعْل عواملَ ثلاثة فيها:
أوّل العوامل ما يمكن أن نطلق عليه سلطة العاديِّ والمعتاد في الحياة اليوميّة. لا يميل النّاس، في الأغلب، إلى تغيير عاداتهم التي درجوا عليها لآمادٍ من الزّمن إلاّ عند اقتضاء الضّرورة القاهرة (العمل، الكسب، الضّغوط الخارجيّة). وحتّى إذا ما وقع تغييرٌ من هذا القبيل الإكراهيّ، فهو يقع على صعيد السّلوك والفعل لا على صعيد التّفكير والوعي، حيث يظلّان عن التّغيير والتّعديل بمعزل وفي حالٍ من الامتناع لا نهاية لها. تبدأ سلطةُ العاديّ بدايةً أشبه ما تكون ب «الطّبيعيّة»، حيث يكتسي العاديُّ والمُعتاد شكل المألوف الذي تؤانِسُه النّفسُ وتُؤْنِس فيه الدَّعَةَ والسّكينة. وغنيٌّ عن البيان أنّ مثل هذا الشّعور الإيجابيّ المتولّد من سلطة العاديِّ/المألوف يكْبح أيَّ ميْلٍ من الذّات نحو التّحرُّر منه.
ثانيها ما ترزح فيه الذّاتُ من أوهامٍ تُطْبِق عليها وتشُدّ خناق التّفكير بحيث تُعجِزها عن تدارُك ما هي فيه من إناخة ِالأوهام بكَلْكَلها على التّفكير السّويّ. من ذلك، مثلاً، ما يَعرِض لتلك الذّات (الفرديّة والجماعيّة) من أوهام العِصمة والتّنزُّه عن إتيان الأخطاء في الأفكار والأفعال، وما يقترن بذلك من تضخُّمٍ في شعور الثّقة بالنّفس وسلامةِ معاييرها. قد يكون مأتى وهْم العصمةِ هذا من ثقافةٍ دينيّة تبجِّل الأسلاف وترفعهم عن رتبة البشر العاديّين، ولكنّ الوعي الدّينيّ ليس وحده مسؤولاً عن إفشاء فكرة العصمة (الجماعة التي تخطئ أو لا تجتمع على ضلالة)، بل يحصل أن يقع ذلك الفشوّ حتّى في مجتمعات المعرفة العلميّة المعاصرة. بيان ذلك أنّ الأساس الذي تمتح منه أُزعومةُ العِصمة هو الاعتقاد بحيازة الذّات العلمَ المطلَق والحقيقةَ المطلَقة، والأساسُ هذا مشتَرَك بين الوعي الدّينيّ والوعي العلميّ وإنْ بأقساطٍ متفاوتة، وهو ما يفسِّر، بالتّالي، لماذا يفشو هذا الاعتقاد في الثّقافات والمجتمعات كافّة.
أمّا ثالث العوامل تلك فيكمَن في النّزعة الدّاخليّة لدى الذّات إلى تعليق مشكلاتها على خارجها، الذي تعتقد أنّه المسؤول وحده عنها، لا على نفسها أو حتّى على ما يمكن أن يكون من نصيبٍ لها - ولو ضئيلٍ - في تلك المسؤوليّة. ليس عسيراً فهمُ أسباب رسوخ تلك النّزعة متى أخذنا في الحسبان أنّ الذّات المتشبّعةَ بالثّقة المطلقة بالنّفس، وبنزعة التّمركُز على الذّات، والمستسلمةَ لشعورٍ جارفٍ من الاطمئنان لحيازتها الحقيقة وما يتولّد من ذلك من اعتقادٍ بالعصمة والتّنزُّه الذّاتيّ لا يمكنها إلّا أن تنساق وراء إغراء تبرئة النّفس وتحميلِ الغير وِزْر ما يعرض لها من مشكلاتٍ أو نوائب. لا يمكن ذاتاً من هذه الطّينة أن تسائل إيمانيّاتها أو أن تحاسب نفسَها على مسْلكٍ من الفعل تأتيه وإلّا بَطَلَ عندها أنّها على حقّ في ما ترى من الرّأي وما تأتي من الفعل.
نحن، إذن، إزاء ذاتٍ بعينها يجوز أن نسمّيها ذاتاً ديكارتيّة أو ذاتاً بمعنًى ديكارتيّ. إنّها ذاتٌ واعية، سويّة، متوازنة، مقتحِمة للعالم وفاعلة. ولكنّها - في الوقت عينِه - ذاتٌ متورِّمة بشعورٍ استعلائيّ تجاه العالم الخارجيّ: تجاه الطّبيعة (التي حوّلتْها بالعنف التّكنولوجيّ) وتجاه التّاريخ، وذاتٌ مدّعيّة للتّفوُّق وللقدرة على معرفةٍ لا تَبْلَى أو تَرُثّ. لذلك لا تسأل نفسَها ويقينيّاتها ولا تحاسبُها، وليس في قاموس عملها مفرداتُ التّصحيح والمراجعة والنّقد إلاّ متى صُرِفَت هذه المفردات وجهة موضوع آخر خارجها. لعلّ هذه العوامل والأسباب، المشار إليها، تكفي لكي تسوِّغَ الحاجة إلى وضْع الذّات موضعَ فحصٍ نقديّ صارم بعد ردْحٍ من الزّمن طويلٍ انصرف فيه هذا النّقد إلى تناوُل عوامل الخارج.
abdilkeziz29@ gmail.com