عبد الإله بلقزيز
ما أُنجِز من دراساتٍ في الفكر العربيّ المعاصر حول الخلافة وحول علاقات السّياسيِّ بالدّينيّ في تاريخ الإسلام - وما نُشِر من ذلك وتُدُووِل خلال المئة عامٍ التي تفصلنا عن صدور كتاب: الإسلام وأصول الحكم للشّيخ الأزهريّ المجتهد عليّ عبد الرّازق - ربّما يكون قد جاوز، من الوِجهة العلميّة، ما ذهب إليه الكتابُ ومؤلِّفه من رؤى إلى مسألة الخلافة ومكانتها من الدّين ومن الاجتماع الإسلاميّ، كما إلى تَمفْصلات العلاقة بين السّياسيِّ والدّينيّ في التّجربة النّبويّة وفي الصّدر الأوّل عموماً.
لقد أتيحت في هذه المئة عامٍ المنصرمة مصادرُ تاريخيّة وفكريّة إسلاميّة كلاسيكيّة، ودراساتٌ غربيّة استشراقيّة رصينة، ومناهج حديثة في الدّرس العلميّ... ما كانت متاحة في الفترة التي وَضَع فيها عبد الرّازق كتابه، فكان لتوفُّرها الأثرُ الكبير في ازدهار الدّراسات الإسلاميّة عندنا وفي الغرب، ازدهاراً جاوز الحدود التي رست عليها الدّراساتُ الإسلاميّة التّقليديّة السّائدة زمن الشّيخ عبد الرّازق والتي سمحت بها المناهج القديمة التي كانت آثارُها لا تزال باديةً على كتابه هذا على الرّغم من جرعته النّقديّة العالية التي لا يمكن أن يجْحدها أحد.
مع ذلك، كان لعبد الرّازق قصبُ السّبق في مضمار تأسيس رؤيةٍ نقديّة إلى تلك المسائل في الفكر الإسلاميّ المعاصر، استأنف بها ما كان قد شَرَع محمّد عبده في تمهيد السّبيل إليه من أفكارٍ تدحض أزعومة المرجعيّة الدّينيّة لنظام الحكم في الإسلام، بل وطَوَّر القول فيها مع ذلك. لقد مرّ على البلاد العربيّة، في هذه الأعوام المئة، من ضروب وأْد الاجتهاد، من جانب، وتَوسُّلِ الدّين في السّياسة وبناءِ المؤسّسة الحزبيّة عليه، من جانبٍ ثان، ما رفَع من قيمة عمل عبد الرّازق في ظروفٍ ثقافيّة نابذة كانت شهِدت على نهايةٍ سريعة للإصلاحيّة الإسلاميّة (بعد انقلاب محمّد رشيد رضا - آخر تلامذتها - على تراثها الفكريّ). أماط اللّثام عن الفُرص المهدورة التي أضاعها العرب والمسلمون على أنفسهم لحماية اجتماعهم المدنيّ والسّياسيّ من امتحان الثّيوقراطيّة: تلك التي نبّه إليها عبد الرّازق واشتدّ في نقدها والتّشنيعِ عليها، حتّى قبل أن تُطِلّ مجدّداً في نسخةٍ أخرى هي نسخة «الدّولة الإسلاميّة»: تلك التي شُرِع في ابتناء أساساتها الأيديولوجيّة في عشرينيّات القرن العشرين- سنوات قليلة بعد محنة عليّ عبد الرّازق- لِتُطِلّ من خلال دعوة الشّيخ حسن البنّا ثمّ مؤسّسة جماعة «الإخوان المسلمين».
بكَّر محمّد عبده إلى نقد خطاب المماهاة بين الدّينيِّ والسّياسيّ، الذي انتشر في البيئات «العلميّة» التّقليديّة المحافظة وردّدهُ كتّاب إسلاميّون كثر، معيداً بناء فرْزٍ وتمييزٍ بين مجاليْن مختلفين في النّصاب. فَعَل ذلك لأنّه أَدْرَك بأنّ القائلين بهذه المقالة يستعيدون المثال الأوروبيّ الوسيط في السّياسة ويتوسّلونه مرجعاً للحكم على النّظام السّياسيّ في الإسلام. وهو إذِ انتقد، بشدّة مقولة السّلطة الدّينيّة ودَحَضَها، انتهى إلى التّشديد على مدنيّة السّلطة في الإسلام ومدنيّة الحاكم الذي يقوم على أمرها.
والحقّ أنّ مثل هذا النّقد - وقد فتحه محمّد عبده داخل الفكر الإسلاميّ السّائد على نحوٍ غيرِ مألوف - هو الذي شرّع الأبواب أمام عليّ عبد الرّازق لأن يكرّس تأليفاً خاصّاً بمؤسّسة الخلافة. صحيحٌ أنّ عبد الرّازق واجهَ مشكلةً ما كانت مطروحةً على محمّد عبده، ولم تفرض نفسها على الوعي إلاّ في أعقاب حلّ الخلافة في تركيا (1924)، وصحيحٌ أنّ عبد الرّازق كان محاطاً بتأييد قسمٍ كبيرٍ من اللّيبراليّين («الأحرار الدّستوريّون») وزعيمِهم - تلميذ محمّد عبده - أحمد لطفي السّيّد، ولكن ظلّ من الصّعب عليه أن يخوض في معترك الجدل حول الخلافة من غير أن يبْنيَ القولَ فيها على مثالٍ سبق.
من سوء حظّ الكتاب وصاحبِه - ولكن، أيضاً، من سوء حظّ الفكر والاجتماع الإسلاميّين- أنّ المماهاة بين الدّين والسّياسة زادت أكثر بعد صدور الكتاب، بل تحوّلت إلى برنامج عملٍ يتحرّك في مسارٍ صاعد ويلتهم المساحات التي كان يسع السّياسةَ أن تستقلّ لنفسها بها. بدأ ذلك في خواتيم عقد العشرينيّات من القرن الماضي مع نهاية عهد الإصلاحيّة الإسلاميّة وبداية عهد الإحيائيّة الإسلاميّة: مع حسن البنّا و«الإخوان المسلمين»، وهو انتقالٌ من مشروع الدّولة الوطنيّة الحديثة إلى مشروع «الدّولة الإسلاميّة»، ومن خطاب التّقدّم والدّعوة إلى الانخراط في العصر والمشاركة في إنتاج الحضارة إلى خطاب الهويّة الدّينيّة والانكفاء إلى الماضي والتّشرنُق على الذّات... إلخ.
وكلّما تقدّمنا في الزّمن، زادت أهوال هذا المسار الجديد مع تعاظُم سلطان التّقليد والجمود العقائديّ، في الوعي والاجتماع، وتضخُّمِ نزعات الرّفض والإنكار لكلّ اجتهادٍ وتحديث في أوساطِ الإسلاميّة الإحيائيّة، وخاصّةً مع انعطاف قسمٍ كبيرٍ منها إلى تبنّي خيار العنف. ولكن، بمقدار ما بدا هذا المسار التّراجعيّ الارتكاسيّ ردّاً تاريخيّاً سيّئاً على اجتهاديّة عبد الرّازق وعلى ما كان يمكن أن يكون لكتابه وأطروحاته من أثرٍ فكريٍّ في ثقافتنا، دَلَّ - في الوقت عينِه - على نَفاسة ذلك الكتاب وعظيمِ قيمته، وعلى راهنيّته التي لم تَمْحُها المئة عام التي انصرمت على كتابته، وهي الرّاهنيّة التي يسوّغها - من أسفٍ شديد - دورانُ الوعي الإسلاميّ في مدارات التّقليد المُقْفَلَة.