عبد الإله بلقزيز
حين يفكّر، مَن يفكّر، في ظاهرة التّسلّط باحثاً عن أَسْلك سبيلٍ إلى فهم أسبابها ودواعيها وصُوَر اشتغالها، ينصرف انتباهُه - أوّلَ ما ينصرف - إلى الوجه السّياسيّ منها، بل قد لا يشغلهُ من الظّاهرة هذه إلاّ الوجه هذا. ليس مِن مَنْقَصةٍ في ذلك أو من عيب ما دام التّسلُّط يقدّم نفسه، في الأغلب، من حيث هو علاقة حاكمة للمجال السّياسيّ في أكثر بلدان العالم المعاصر، وما دام يُعْرَف عند دارسيه - كما عند من يقع عليهم فعْلُه - بوصفه ظاهرةً سياسيّة.
والحقُّ أنّ سياسيّات التّسلُّط قد تكون أجدرَ بتسليط ضوء الدّرس عليها من غيرها من أبعاده الأخرى، ولكن لا لأنّ أبعادَه الأخرى قليلة الشّأن والأهميّة، بل لأنّ النّاس تصطدم ببعده السّياسيّ أكثر، أو لِنقُل إنّ بُعْدَه هذا يبدو أشدّ قسوةً على من يتعرّضون له وأوسعَ دائرةً أو نطاقاً من أيّ وجْهٍ آخر له. إنّ أولويّة سياسيّات التّسلّط - لا رُتْبتها في سُلّم الأهميّة - هي ما يُبرِّر، إذن، لماذا كان الاهتمام الفكري بهذا الجانب أكثف، ولماذا تَحَصَّل منه منتوجٌ غزير تعاورت على تقديمه ميادينٌ معرفيّة كثيرة حتّى كاد أن يغطِّيَ على إنتاجٍ علميّ موازٍ انشغل بأبعادٍ أخرى فيه، وحتّى كاد أن يوحيَ بأنّه منتوجٌ خاصّ بشأنٍ هو، بالتّعريف الحصْريّ، شأنٌ سياسيّ.
ليس في ما قلناهُ أيُّ نيّةٍ لتبرير هذا المسْلك في النّظر إلى ظاهرة التّسلُّط وفي الذّهاب إلى اختزالها إلى صعيدٍ منها بعينه: هو صعيدُها السّياسيّ، كما ليس في حسابنا أن نُنْحِيَ باللّائمة على أولئك الذين انغمسوا في دراسة سياسيّاته وأعرضوا عن أبعاده الأخرى، إنّما كنّا في معرض تسجيلٍ وضعيّ لحقيقةٍ قائمة في هذا الباب، هي تعاظُم حجم الدّراسات التي تناولت سياسيّات التّسلُّط، من مواقع علميّة مختلفة (علم السّياسة، فلسفة السّياسة، علم الاجتماع السّياسيّ...)، مقارنةً بما عداها من دراسات قاربت جوانب أخرى منه. يتعلّق الأمر، إذن بتقريرٍ وضعيّ أو بوصفٍ محايد لمقام ظاهرة التّسلُّط في ميادين الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة في الفكر المعاصر.
على أنّ ظاهرة التّسلُّط أعمقُ جذوراً من جذريْها الاجتماعيّ والسّياسيّ، حتّى لا نقول إنّ جذورها العميقة تلك هي التي تهيّئ شخصيّة المتسلِّط وتصنعها وتوفّر له الدّيناميّات التي تدفعه إلى ممارسة التّسلُّط في المجالات التي تكون له فيها سلطة على غيره. على أنّ تلك الجذور العميقة من محتِديْن مختلفيْن و، بالتّالي، يختلف أثرُها بين أن يكون مأتاها من هذا أو من ذاك من المصدريْن، إذ هي إمّا أن تكون طبيعيّة، أي مصدرُها الطّبيعة الإنسانيّة، أو أن يكون النّظام الاجتماعيّ: التّربويّ والثّقافيّ، مصدرها الذي نبعت منه وتكرّست به. ومع أنّ الفارق بين المنْبعين فارقٌ بين الطّبيعةِ والثّقافة، الغريزةِ والإرادة إلاّ أنّ أثرَ النّزعةِ التي مصدرُها الثّقافة والمجتمع أنْفَذُ من أثرها حين يكون مَمْتَحُها الطّبيعةَ الإنسانيّة.
إنّ الميْل إلى التّسلُّط ميْلٌ غريزيّ لدى الإنسان يأتيه عفْواً ومن غير تقصُّدٍ أو إرادة، شأنه شأن كلّ ميْلٍ غريزيّ منصرِف إلى هدفه: إشباع رغبة داخليّةٍ ما. ينتمي هذا الميْل إلى ديناميّةٍ دافعة تؤسِّس له وتبرِّره هي الرّغبة في الاستحواذ على الأشياء وحيازتها الحصريّة والتّحكُّم فيها. والاستحواذ، في جوهره، احتكارٌ واستملاكٌ كامل، لذلك لا يَقْبَل ممارِسُه اقتسام أشيائه مع غيره لأنّها، في نظره، متاعٌ له.
يمكن للمرء، مثلاً، أن يراقب تجلّيّات هذا الميْل لدى الطّفل، وكيف يستميت لكي يتسلّط على الشّيء الذي يَعُدُّهُ ملْكاً حصريّاً له، بل في الوسع ملاحظة ذلك حتّى عند الحيوان. ولكن، لمّا كان على الثّقافة تهذيبُ ما غَلَت فيه الطّبيعةُ وأفرطت والإتيانُ بيد التّربيّة والتّكوين على فاعليّة غرائزَ من شأنها إعاقة تكوُّن الاجتماعيِّ في الإنسان، فقد كان يسعها أن تُخْمِد جذوةَ غرائز عدّة وأن تُلْجِم اندفاعتها وتفرض عليها أرباق الواقع بالتّكييف والمواءمة والمنع. على أنّه يظلّ عسيراً على الثّقافة والتّنشئة والتّكوين أن تستأصل شأفة ما هو غريزيّ وطبيعيّ في النّاس، إذا كانت تستطيع أن تكبح جماحه. لذلك تظلّ هناك، دائماً، مساحةٌ لأن تلعب الغرائزُ في ميدان الثّقافة والتّربيّة وأن تتفلَّت من كلّ ترويضٍ وتقييد.
ولكن، إذا جاز أن يُعْتَرَف بطبيعيّة ما هو غريزيّ وكُفَّ، بالتّالي، عن استشناعه أو النّظرِ إليه بما هو فعْلٌ منحرف مقدوحٌ فيه، فلا يجوز للثّقافة والتّربيّة أن تعيدا إنتاجه وترسيخه وكأنّهما لحظةٌ ثانية من الطّبيعة. ها هنا تصير المشكلة مضاعَفة، أعني حين تنهض الثّقافة بدور تعزيز غرائز بعينها من شأنها الإضرار بالعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، مثل العدوان، والأنانيّة، والميْل إلى الاستحواذ... إلخ.
إنّ جذور التّسلّط في الطّبيعة أهونُ من جذوره في التّربيّة والثّقافة ما دام يمكن علاجه. ولكن إذا كانت جذورُهُ في الغريزة قابلةً للتّهذيب والتّرويض في المجتمع، بالتّنشئة والتّكوين والتّثقيف، فمن سيهذِبه ويروِّضه إنْ كانت جذورُه فيهما أو إنْ كان منتوجاً من منتوجاتهما؟ هذا ما حملَنا على القول أعلاهُ إنّ أثر نزعة التّسلُّط النّاشئ من تكوينٍ ثقافيّ أنفذُ من نزعته حين تكون الطّبيعةُ الإنسانيّة مصدرَه.