عادي

حديث سلطان في ميلانو

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
1
سلطان والشيخة جواهر خلال زيارة جامعة القلب المقدس في ميلانو

أحمد بن ركاض العامري *

في خطوة ثقافية جديدة من مسيرة النبل الثقافي، أهدى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مخطوطاً تاريخياً نادراً، يعود للقرن السابع عشر، إلى جامعة القلب المقدس الكاثوليكية في مدينة ميلانو الإيطالية، مرفقاً بنسخة من كتابه القيّم «مرسوم بابوي». هذا الحدث، الذي تميز بحضور قرينة سموه، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، يعكس التقاء الفكر والمعرفة، ويؤسس لجسر إنساني وثقافي يتجاوز الرسميات، ويعبر نحو قيم أكثر رسوخاً في ذاكرة العالم المعاصر.

لغة الحضارة

هذه الهدية رسالة مكتوبة بلغة الحضارة والتاريخ، يُعيد من خلالها سموه الاعتبار إلى لحظة مفصلية من تاريخ الخليج العربي وتفاعله مع القوى الكولونيالية الأوروبية في القرن السابع عشر، فلا يكتفي سلطان الحكمة والمعرفة بالكشف عن الوثيقة، بل يتولى ترجمتها وتحقيقها وسرد سياقها التاريخي المعقد، من خلال عمل علمي موثق استغرق سنوات من الجهد والبحث، وهو بذلك لا يهدي الجامعة مجرد وثيقة، بل يقدم لها سردية جديدة تُعيد العدالة للموازين، وتظهر الوجه الآخر للتاريخ الذي غالباً ما يروى من زاوية واحدة.

دلالات ثقافية

إن مشاركة قرينة سموه في هذا الحدث تحمل دلالات ثقافية واجتماعية وحضارية عميقة. حضور سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، التي تقود بدورها عدداً من المبادرات والمؤسسات التنموية والإنسانية، يرسخ رؤية الشارقة المتكاملة نحو النهضة، حيث يكون المشروع الثقافي جزءاً لا يتجزأ من مشروع مجتمعي متكامل، يعلي من قيمة الإنسان، ويعزز دور المرأة، ويكرس الثقافة باعتبارها بنية مؤسسة للتنمية.

وعند تأمل مضامين كلمة صاحب السمو حاكم الشارقة في ميلانو، نرى بياناً فكرياً يتقاطع فيه السياسي بالتاريخي والجغرافي، والمعرفي بالإنساني. فحين يُبرز سموه تفاصيل الصراع بين البرتغاليين والإنجليز على الخليج، ويسرد ما دار خلف الكواليس من تحالفات ومراسلات بابوية لجمع الأموال من أجل إرسال الأساطيل، فإنه يحيي التاريخ ويعيد تثقيفه، يسرده بنزاهة، ويضعه في متناول المؤسسات التعليمية، ليكون ذخيرة للطلاب والباحثين، ونموذجاً لكيفية قراءة الماضي لصناعة الحاضر.

1
أحمد بن ركاض العامري

العدالة والمعرفة

حتى توقيع صاحب السمو حاكم الشارقة على كتاب «مرسوم بابوي» لم يكن مجرد إجراء بروتوكولي، بل يحمل في عمقه دلالات تتجاوز رمزية الإهداء إلى ما يشبه التوقيع على ميثاق ثقافي وإنساني جديد، يعيد تعريف العلاقات بين الشعوب والمؤسسات خارج سرديات الهيمنة والتفوق، وداخل أفق العدالة والمعرفة والحوار.

لقد دون سموه في صفحات الكتاب كلمات تكاد تكون إعلاناً عن عهد مختلف، عهد تُكتب فيه الحقيقة بالتقصي لا بالادعاء، وتُقدم فيه الرواية من ضمير العدل لا من زاوية الغالب. وكأن التوقيع حجر أساس لنماذج التحالفات الحضارية القائمة على الاحترام المتبادل، ومخاطبة الضمير الإنساني عبر الوثيقة والكلمة، لا عبر القوة أو المصالح العابرة. إنه توقيع على التزام تاريخي وأخلاقي، يلهم الأجيال بأن تعيد ترتيب أولوياتها على ضوء المعرفة، لا على وقع ضجيج التنافس والإلغاء.

إن ما جرى في ميلانو يضيف صفحة جديدة في سجل الشارقة الثقافي، ودليل جديد على قدرة مشروعها الحضاري في الوصول إلى قلب العالم وعقله. حين تهدي مدينة عربية وثيقة نادرة وكتاباً بحثياً دقيقاً إلى واحدة من أعرق الجامعات الكاثوليكية، فإنها تؤكد أن الثقافة العربية ليست مجرد موروث، بل هي مشروع حي قادر على أن يُقدم، ويؤثر، ويعيد تشكيل الوعي العالمي. لقد لمسنا كيف تغلغل إهداء صاحب السمو وما حمله الموقف من دلالات رفيعة إلى أروقة النخبة الثقافية والأكاديمية والدينية في ميلانو، فتناقله الأكاديميون والباحثون والمثقفون بوصفه قيمة تاريخيّة كبيرة ونادرة توقظ الذاكرة، وتعيد ترتيب علاقة المعرفة بالتاريخ وتفتح آفاق العالم لتأمل جديد في معنى الرسالة الثقافية من حاكم عربي مسلم وأثره العابر للزمن.

تاريخ أوروبا

تجلى ذلك في كلمة الدكتورة إيلينا بيكالي رئيسة «جامعة القلب المقدس» حين قالت: «إن الوثيقة التي قدمها لنا صاحب السمو مهمة للغاية في تاريخ أوروبا والخليج العربي، ولكن إذا أردنا إدراك أهميتها أكثر، علينا الرجوع إلى كتاب سموه «مرسوم بابوي» للبابا أوربان الثامن، فهو تحقيق تاريخي عميق أنجزه مؤرخ كبير «الدكتور سلطان القاسمي» على مدار أكثر من عامين من البحث والربط الدقيقين. إن كتاب صاحب السمو مرجع تفصيلي للوثيقة الأصلية، وقد يتجاوز في قيمته العلمية والتاريخية أفضل أطروحات الدكتوراه الأكاديمية رفيعة المستوى في هذا المجال».

وسط هذا المشهد، يبرز صاحب السمو حاكم الشارقة ليس فقط كحاكم، بل كنموذج إنساني وعلمي نقي، يقدم للأجيال العربية والعالمية مثالاً لما يمكن أن يكون عليه الحاكم حين يجمع بين المعرفة والمسؤولية، بين الرواية التاريخية والرسالة الحضارية، ويؤكد أن ما يخلّد القادة ليس ارتباطهم بالسلطة، بل قدرتهم على تحويل الثقافة إلى رسالة، والتاريخ إلى ضمير، والقيادة إلى التزام أخلاقي ممتد عبر الأجيال.

* الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"